د. حسن يوسف الشريف – يقظة فكر
ميّزّ اللهُ تعالى الإنسان بثلاث نِعم: (نعمة العقل ونعمة الإرادة ونعمة الوحي), فبالعقل يُميّز بين الخير والشر وبه يعرف الحق والباطل, وبالإرادة يتّخذ مواقفه ويُحدد سلوكه حسب ما يمليه عليه علمهُ للحق والباطل, وبالوحي يُصحّح مساره في الحياة ويُحقّق التوازن في نفسه واهتماماته ويُربّي عقله على التفكير السليم.
الإسلامُ في تربيته الرساليَّة للإنسان يعمل على صبغ أفراده بروح الإيمان, والتي تقوم على العقل المفكر والإرادة الفاعلة, وهذا العقل الذي يريده الإسلام هو الذي يفكر التفكير المستقيم لا الأعوج والناتج عن عقل حر, ليس أسيرًا للهوى, ولا تابعًا للتفكير الأعمى, ولا مقيدًا بالتعصب والجمود, ولا مناهضًا لأخلاق الإيمان بالله, ولا معاديًا للتفكير العلمي.
كما أنَّ الإرادة الفاعلة التي يريدها الإسلام هي إرادة فعل الخير لا فعل الشر “وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (الحج: 77), إرادة اقتحام العقبات لتحرير الناس من العبودية وتحدى المشكلات الاقتصادية “فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ” (البلد: 11-14), إرادة تعمل على تقوية كل ما هو حق وإضعاف كل ما هو باطل “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ”(التوبة: 71), لذلك يعمل الإسلامُ على تنمية جانب الإدراك بتقوية البصيرة للوصول إلى اليقين, وتنمية جانب العمل والتحمُل للوصول إلى الصبر وقوة التنفيذ, قال تعالى: “وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ”(ص: 45), قال ابن القيم: “أولوا الأيدي: القوة في تنفيذ الحق, الإبصار: القوة في إدراك الحق”(1).
وبالقوةِ في إدراك الحق وتنفيذه يكون المؤمن قدوة وإمامًا في فعل الخير وهى صفة من صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان “وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا”(الفرقان: 74), قال المفسرون: “إمامًا: قدوة خير نقتدي بمن قبلنا ويقتدِي بنا من بعدنا, كما قال تعالى: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ” (السجدة: 34), قال ابن القيم: “لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين”(2).
لقد زوَّد الله تعالى الإنسان بقوَّتين لتحقيق الخلافة في الأرض بتحقيق العبادة ونشر العمران: قوة علميَّة نظريَّة عقليَّة غايتها إدراك الحقائق, وقوة عمليَّة لتحقيق المصالح ودرأ المفاسد, وبيَّن له أنّ تخَلُّف العمل عن المعرفة نقص في صفات العقلاء “أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ”(البقرة: 44), وأنِّ مخالفة العمل للقول صفة يَستحق الإنسانُ بها المقْتُ من الله تعالى “كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”(الصف: 3).
وليس كلُ مؤمنٍ بالحق يكون صادقًا في إيمانه, بل الصادق من حوَّل إيمانه بالمبدأ إلى تطبيق عملي, وعاش في ذلك ومات عليه, قال تعالى: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا”(الأحزاب: 23), وكما عرَّف أهلُ السُّنة والجماعة الإيمان بأنه: “تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان”.
ولا شك أنَّ الإيمان الحقيقي هو الذي يقّوِّي الإرادة ويحوِّلها نحو العمل والسعي, ولابد أن يرافقه الإخلاص, كان هذا هو السعي المشكور “وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا” (الاسراء: 19), والإخلاص أن تريد الله بطاعتك ولا تريد سواه.
لقد جعل الله الفوز بالجنة لمن جمع بين الإيمان والعمل, أو جمع بين اليقين والصبر, أو جمع بين القوة في إدراك الحق والقوة في تنفيذه, فقال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا”(الكهف: 107).
ولأنَّ الصبر رمز لتحمُل المشقَّة في العمل والتنفيذ للصالحات؛ فإنَّ الصبرَ مقرونٌ بوعد الله للمؤمنين بالجنة فقال تعالى: “وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا” (الإنسان: 12), وقال تعالى “إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ”(المؤمنون: 111), وقال تعالى: “أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا”(الفرقان: 75).
• أصول التربية الرسالية:
1.الأصل الأول: تصديق الخبر (آمنوا).
2.الأصل الثاني: طاعة الأمر وامتثاله (عملوا الصالحات).
3.الأصل الثالث: مقاومة الشبهات المانعة من كمال التصديق.
4.الأصل الرابع: مقاومة الشهوات المانعة من كمال الامتثال.
5.الأصل الخامس: إدراك قيمة الوقت.
6.الأصل السادس: إدراك قيمة العمل في فريق.
7.الأصل السابع: رعاية الحقوق.
8.الأصل الثامن: النصر مع الصبر.
معنى التربية: يقول الإمام البيضاوي في التربية: “هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا”, وفى مفردات الرَّاغب الأصفهاني: “هي إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام”, ونستفيد من هذه التعريفات أنّ التربية مثل البناء فهو يتم بالتدريج شيئًا فشيئًا حتى يبلغَ التمام؛ فالتربيةُ بناءٌ عظيمٌ لا يتمُّ في لحظةٍ واحدةٍ بل يحتاج إلى مراحل تستغرق وقتًا؛ فالتعلُّم, وفهم ما يُطالِب به العلم من اعتقادٍ أو فعلٍ أو تركٍ, ثم الامتثال, يقول عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): “كنا على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – نتعلَّم العشرِ آياتٍ فلا نتجاوزهن حتى نعلم ما فيهنّ ونعمل بهنّ فتعلمنا العلم والعمل معًا”(3), أي أنَّ التربية تعتني بالعمل عنايتها بالتعلم, وتعتني بالفهم عنايتها بالعلم, فكما يقول ابن القيم(4): الفهمُ شيءٌ زائد على العلم لقوله تعالى: “فَفَهْمنَاهَا سُليْمَان وَكُلَّا آتَيْنًا فَهْمًَا وَعِلْمًَا”.
• أمراض القلوب:
ذكرنا أنّ الله تعالى خلق الإنسان من قوتين علمية وعملية, ولكن هناك عوائق ربما تمنع كمال هاتين القوتين في تحقيق أهدافها ومنها الشبهات والشهوات وغيرها من أمراض القلوب, يقول الإمام ابن القيم: “الشبهات والشهوات هما أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده, كما أنّ تصديق الخبر وطاعة الأمر هما أصل سعادته ومعاده, وذلك أنَّ العبد له قوتان قوة الإدراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام, وقوة الإدراك والحب وما يتبعها من النية والعزم والعمل, فالشبهة تُؤثر فسادًا في القوة العلمية والنظرية ما لم يداويها بدفعها, والشهوة تُوثر فسادًا في القوة الإدارية العملية ما لم يداويها بإخراجها “(5), وقال أيضًا: “إنّ القلب يعترضه مرضان وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات, هذا أصل داء خلق إلا من عافاه الله, وقد ذكر الله هذين المرضين في كتابه؛ أما مرض الشبهات وهو أصعبهما وأقتلهما للقلب في قوله في حق المنافقين: “في قُلُوبِهِم مَّرَّضٌ”, والمراد بها مرض الجهل والشبهة, وأما مرض الشهوة ففي قوله تعالى في الكلام: “فَلَا تَخْضَعْنَّ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعُ الذي في قَلْبِهِ مَرَض”, أي لا تلِن في الكلام فيطمع الذي في قلبه فجور وزنى, وفى القلب أمراض أخرى من الرياء والكبْر والعُجْب والفخر والحسد والخُيَلاء وحب الرياسة والعلو في الأرض, وهذا المرض مركب من الشبهة والشهوة؛ فإنه لابد فيه من تخيل فاسد وإرادة باطلة كالعجب والفخر والخيلاء, والكبر المركب من تخيل عظمته وفضله وأرداه تعظيم الخلق له ومحمدتهم, فلا يخرج مرضه من شهوه أو شبهه أو مركب منهما, وهذه الأمراض كلها متولدة من الجهل ودوائها العلم “.(6)
• احذر الغفلة والكسل:
ومن الأمراض التي يجب أنْ يحذرها المسلم وتهتم التربية الرسالية بالتنبيه على خطرها “الغفلة والكسل”؛ فهما أصل الحرمان من خير الدنيا والآخرة, إنّ أعظم الأسباب التي يُحرم بها العبد خير الدنيا والآخرة, ولذة النعيم في الدارين, ويدخل عليه عدوه منهما, هما الغفلة والكسل, الغفلة المضادة للعلم, والكسل المضاد للإرادة والعزيمة, هذان أصل بلاء العبد وحرمانه منازل السعداء, وهما من عدم العلم, أما الغفلة فمضادة للعلم منافية له, وقد ذم سبحانه أهلها, ونهى عن الكوْن منهم, وعن طاعتهم والقبول منهم, قال تعالى “وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِليِن” وقال: “وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا”(الكهف: 28).
فالقلب الغافل مأْوى الشيطان, فإنّه وسْاوس خناس, قد الْتقم قلب الغافل يقرأ عليه أنواع الوساوِس والخيالات الباطلة, فإذا تذّكر وذكَر الله خَنس وتضاءل لذكر الله, فهو دائمًا بيْن الوسوسة والخَنَس, إنما يترقب غفلة العبد فيبذر في قلبه الأماني والشهوات والخيالات الباطلة, ولا يزال يمده ويسقيه حتى يُغطى القلب ويعميه.
أما الكسل فيتولد عنه الإضاعة والتفريط والحرمان وأشدّ الندامة, والكسل منافي للإرادة والعزيمة التي هي ثمرة العلم, فإنّ من علم أن كماله ونعيمه في شيء طلبه بجهده وعزم عليه بقلبه كله, فإن كل أحدٍ يسعى في تكميل نفسه ولذته, ولكنْ أكثرهم أخطأ الطريق لعدم علمه بما ينبغي أن يطلبه, فالإرادة مسبوقة بالعلم والتصور, فتخلفها في الغالب إنما يكون لتخلف العلم والإدراك, وإلا فمع العلم التام, فإنّ سعادة العبد في هذا المطلب ونجاته وفوزه, فكيف يلحقه كسل في النهوض إليه ولهذا استعاذ النبي – صلى الله عليه وسلم – “من الكسل, والمقصود أنَّ الغفلة والكسل اللذان هما أصل الحرمان سببهما عدم العلم, فعاد النقص كله إلى عدم العلم والعزيمة, والكمال كله إلى العلم والعزيمة.(7)
• بين العقل والقلب:
إنّ معرفة الحق من الباطل والخير من الشر هي وظيفة عقليَّة, بينما الدوافع التي تجعل الإنسان يُؤْثر الحق على الباطل والخير على الشر أو العكس هي دوافع تأتى من القلب, لأنّ الحب والكراهية والخوف والرجاء والتعظيم هي دوافع تأتى من القلب لا من العقل, والقلب هو ملتقى العواطف الدافعة والرادعة والممجدة, فالعواطف الدافعة هي الحب والتعظيم, والرادعة تتمثل في الخوف والكراهية, والممجدة تتمثل في الانبهار والإعجاب والإجلال, يقول الدكتور محمد سعيد البوطي: “وكأن القلب هو لوحة تتمتع بحساسيَّة مرهفة, تعكس وتُسجل المشاعر المختلفة التي نطلق عليها العواطف الدافعة والرادعة والممجدة”.
إذَن فلنطرح السؤال التالي: عندما يمارس أحدنا أعماله ونشاطاته المتنوعة, أيستجيب في ذلك لدوافع عقله الذي به يدرك ويعلم, أم لدوافعه القلبية التي بها يحب ويكره ويعظم ويثور ويغضب ؟!
يقول علماء النفس: “إنَّ الدوافع القلبيَّة هذه إلى الأعمال والأنشطة السلوكية في حياة أكثر الناس تساوى (70%) من مجموع دوافعهم إلى السلوك, أما الدافع الفكري فيساوى (30%) منها”.
• القيادة بيد العواطف وليست بيد العقل:
وإنّكم لتشاهدون هذه الحقيقية التي أقولها في واقع الناس اليوم, أنَّ أكثرهم يعرفون الحق ويميزونه عن الباطل ولكنْ تأْمل كم منهم يُخضعون سلوكهم للحق الذي عرفوه؟!
إنَّهم لا يبلغون الربع!!.. لأنَّ الذي يقودهم لهيب العواطف والأهواء لا ضياء العقل وأحكامه (8), لذلك فالناس يستجيبون غالبًا لنوازعهم العاطفيَّة أكثر من استجابتهم لقناعاتهم العقليَّة, ومن الخطر أن تتحكم العاطفة بالعقل فلابد من العلاج, وذلك بالتربية الرساليَّة, فهي تتجه إلى العقل بتنميته ليُحسن التفكير والإدراك, وتتجه إلى النفس لتحسن إصلاحها بتزكيتها وتهذيبها, وذلك حتى يمكن السيطرة على النفس لتسير تحت أحكام العقل المستمدة من أنوار الشرع.
وهذا هو هدف التربية الرساليَّة, إخراجُ الناس من الظلماتِ إلى النورِ, كما قال تعالى: “هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ” (الحديد: 9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الداء والدواء, وفى تفسير ابن كثير “يقول تعالى عن عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد, والأيدي: القوة في العلم والعمل”.
2. الداء والدواء.
3. وفى مصنف عبد الرازق لأبى بكر عبد الرازق الصنعانى: عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنا نتعلم العشر من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نتعلم حلالها وحرامها وأمرها ونهيها “
4. إعلام الموقعين.
5. مفتاح دار السعادة, صـ43.
6. المصدر السابق, صـ 120.
7. المصدر السابق, صـ 122.
8. الحكم العطائية, د.محمد سعيد البوطى, جـ 1, صـ 181.
أصول التربية الرساليَّة |2|
- التفاصيل