كلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين.
وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه، والنزول من وجه، وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله، فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة، كمن كان بالعكس. ولكن يعرض هاهنا للنفوس غلط عظيم، وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا أبعد مما بين المشرق والمغرب، ومما بين السماء والأرض، فلا يفي صعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة ، لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أَبْعَدَ مما بين المشرق والمغرب».
فأي صعود يوازن هذه النزلة ؟ والنزول أمر لازم للإنسان، ولكن من الناس من يكون نزوله إلى غفلة، فهذا متى استيقظ من غفلته عاد إلى درجته، أو إلى أرفع منها بحسب يقظته.
ومنهم من يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة على الطاعة، فهذا متى رجع إلى الطاعة فقد يعود إلى درجته، وقد لا يصل إليها ، وقد يرتفع عنها، فإنه قد يعود أعلى همة مما كان، وقد يكون أضعف همة ، وقد تعود همته كما كانت.
ومنهم من يكون نزوله إلى معصية، إما صغيرة أو كبيرة، فهذا يحتاج في عوده إلى درجته إلى توبة نصوح، وإنابة صادقة.
واختلف الناس هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها، بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب، وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن، أو لا يعود، بناء على أن التوبة تأثيرها في إسقاط العقوبة، وأما الدرجة التي فاتته فإنه لا يصل إليها.
قالوا : ومثل ذلك رجلان يرتقيان في سلمين لا نهاية لهما، وهما سواء، فنزل أحدهما إلى أسفل، ولو درجة واحدة، ثم استأنف الصعود، فإن الذي لم ينزل يعلو عليه ولا بد.
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما مقبولا فقال:
التحقيق أن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته، ومنهم من يعود إلى مثل درجته، ومنهم من لا يصل إلى درجته.
قلت : وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها، وما أحدثته المعصية للعبد من الذل والخضوع والإنابة، والحذر والخوف من الله، والبكاء من خشية الله، فقد تقوى هذه الأمور، حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته، ويصير بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة، فهذا قد تكون الخطيئة في حقه رحمة، فإنها نفت عنه داء العجب، وخلصته من ثقته بنفسه وإدلاله بأعماله، ووضعت خد ضراعته وذله وانكساره على عتبة باب سيده ومولاه، وعرفته قدره، وأشهدته فقره وضرورته إلى حفظ مولاه له، وإلى عفوه عنه ومغفرته له، وأخرجت من قلبه صولة الطاعة، وكسرت أنفه من أن يشمخ بها أو يتكبر بها، أو يرى نفسه بها خيرا من غيره، وأوقفته بين يدي ربه موقف الخطائين المذنبين، ناكس الرأس بين يدي ربه، مستحيا خائفا منه وجلا، محتقرا لطاعته مستعظما لمعصيته، عرف نفسه بالنقص والذم. وربه متفرد بالكمال والحمد والوفاء كما قيل:
استأثر الله بالوفاء وبالحمد ... وولى الملامة الرجلا
فأي نعمة وصلت من الله إليه استكثرها على نفسه ورأى نفسه دونها ولم يرها أهلا، وأي نقمة أو بلية وصلت إليه رأى نفسه أهلا لما هو أكبر منها، ورأى مولاه قد أحسن إليه، إذ لم يعاقبه على قدر جرمه ولا شطره، ولا أدنى جزء منه.
فإن ما يستحقه من العقوبة لا تحمله الجبال الراسيات، فضلا عن هذا العبد الضعيف العاجز، فإن الذنب وإن صغر، فإن مقابلة العظيم الذي لا شيء أعظم منه، الكبير الذي لا شيء أكبر منه، الجليل الذي لا أجل منه ولا أجمل، المنعم بجميع أصناف النعم دقيقها وجلها - من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها، فإن مقابلة العظماء والأجلاء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد مؤمن وكافر. وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من قابلهم بالرذائل، فكيف بعظيم السماوات والأرض، وملك السماوات والأرض، وإله أهل السماوات والأرض؟ ولولا أن رحمته سبقت غضبه، ومغفرته سبقت عقوبته، وإلا لتدكدكت الأرض بمن قابله بما لا يليق مقابلته به، ولولا حلمه ومغفرته لزلزلت السماوات والأرض من معاصي العباد، قال تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [ سورة فاطر:41].
فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه ، وهما : " الحليم ، والغفور " كيف تجد تحت ذلك أنه لولا حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرت السماوات والأرض ؟
وقد أخبر سبحانه عن كفر بعض عباده أنه : ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ [سورة مريم: 90].
وقد أخرج الله سبحانه الأبوين من الجنة بذنب واحد ارتكباه وخالفا فيه نهيه، ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السماوات والأرض بذنب واحد ارتكبه وخالف فيه أمره، ونحن معاشر الحمقى كما قيل :
نصل الذنوب إلى الذنوب ونرتجي ... درج الجنان لذي النعيم الخالد
ولقد علمنا أخـرج الأبوين من ... ملكوتـه الأعلى بذنب واحد
والمقصود أن العبد قد يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة وأرفع درجة، وقد تضعف الخطيئة همته وتوهن عزمه، وتمرض قلبه، فلا يقوى دواء التوبة على إعادته إلى الصحة الأولى، فلا يعود إلى درجته، وقد يزول المرض بحيث تعود الصحة كما كانت ويعود إلى مثل عمله، فيعود إلى درجته.
هذا كله إذا كان نزوله إلى معصية، فإن كان نزوله إلى أمر يقدح في أصل إيمانه، مثل الشكوك والريب والنفاق، فذاك نزول لا يرجى لصاحبه صعود إلا بتجديد إسلامه.

نقل لكم باختصار
من كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
للإمام ابن قيّم الجوزية

JoomShaper