الدكتور عبـد القـادر حسين ياسين
فرغتُ قبل أيام من قراءة كتاب للباحث الألماني الدكتور ديتلف ألبرس يتناول فيه ، بالأرقـام وبالتفصيل الـمـمـل ، إستراتيجية الجوع وأدوات السيطرة على مقدرات دول العالم الثالث. وقبل أن أبـدأ بقراءة الكتاب بدا لي العنوان غريبا أو باعثا على الفضول. هل يمكن أن تكون للجوع إستراتيجية؟
لكن الكتاب لا يـدع لهذا السؤال مكاناً، حين يُصَدره المؤلف (وهو واحـد من ألمع علماء الاقتصـاد في ألمانيا) ببند من "الإعلان العـالمي لحقوق الإنسان" ينص على أن " لكل شخص الحق في مستوى معيشي كاف لضمان صحته والعيش الكريم له ولعائلته، وخاصة في ما يتعلق بالتغذية والملبس والمسكن والرعاية الصحية، وكذلك الخدمات الاجتماعية الأساسية”، ليخلص إلى أن قسماً مهماً من الجنس البشري محروم من هذه الحقوق.
لكن الأمور ليست هنا، إنما في تلك الأرقام المفزعة التي يقدمها الكاتب، فهي أرقام يقشعر منها البدن... يشير الدكتور ألبرس إلى أن الثلاثة أشخاص الأكثر غنى في العالم "يملكون ثروة تفوق مجموع الناتج القومي الإجمالي للدول الثماني والأربعين التي تعد الأكثر فقرا والأكثر بـؤسـا في العالم"، والتي تشكل أكثر من 25 % من إجمالي سكان هذا العالم!
أكثر من ذلك يضع الكاتب يده على الجرح المؤلم، حين يكشف أن "الليبرالية الجديدة"، التي أعلنت خلال العقدين المنصرمين انتصارها، وتباهت بما حقـقـته من “انتعاش” اقتصادي، متبجحة بأنها من أسقط الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، هي نفسها، أي هذه الليبرالية، من جلب الخراب لملايين البشر في أرجاء المعمورة...
والكاتب هنا أيضا لا يقوم بالتنظير، إنما يعطي الأرقام الجارحة كحد السكين، ذلك انه إذا كان الـ 20% من سكان العالم الذين يعيشون في البلدان الأكثر غنى لهم دخل يفوق بـ 34 مرة دخل ال20% الأكثر فقرا عام 2000 فان هذه الهوة قد اتسعت لتصبح في العام الماضي اثنتين وثمانين مرة، والأرقام تترى، فدخل الفرد في أكثر من سبعين دولة من دول العالم هو دون ما كان عليه قبل عشرين سنة، وفي العالم قرابة ثلاثة بلايين من البشر، أي أن نصف البشرية بالتمام والكمال ، يعيشون بدخل يقل عن دولار واحد في اليوم .
وخلال الـعـقـدين الأخيرين تفاقمت مديونيات دول العالم الثالث على نحو لم يسبق له مثيل. ويـسـَلـط الكاتب الضوء على الشروط المجحفة لعمليات الإقراض الخارجي وإعادة الجدولة التي تتعرض لها الـدول النامية، فتسقط فريسة لجماعة الدائنين.
وبصرف النظر عن مسؤولية السياسات والتوجهات الانمائية الخاطئة لمعظم الدول النامية التي ترزح تحت عبء المديونية الخارجية، واعتمادها المفرط على النمط الاستهلاكي المستورد والتكنولوجيا المستوردة، فإن عملية "خدمة الدَين الخارجي" غدت احدى الآليات المهمة للسيطرة على مقدرات دول العـالم الثـاث ونزع الفائض الاقتصادي المتاح لها، وبالتالي تقويض الشروط الموضوعية لعملية التراكم الداخلي والذاتي.
ولا غرو في ذلك، فالمتفحص لأحدث الاحصاءات التي ينشـرها البنك الدولي عن تطور مدفوعات الفائدة الخاصة بخدمة الديون الخارجية لمجموع الدول النامية، يكشف ان مدفوعات الفائدة وحدها من دون تسديد أصل الدين كانت تلتهم ما يربو على 11% من حصيلة صادرات الدول النامية منذ منتصف الثمانينات. كذلك، فإن مدفوعات خدمة الدين (الأصل + الفوائد) كانت تلتهم نحو 22% في المتوسط، من حصيلة صادرات الدول النامية منذ منتصف الثمانينات، بعدما كانت هذه النسبة تصل الى 14% في بداية الثمانينات، الأمر الذي يهدد باستنزاف معظم حصيلة النقد الأجنبي المتاحة.
ونتيجة لذلك، فإن بعض الدول النامية، لم تعد لديها كميات من النقد الأجنبي سوى تلك الكافية بالكاد للوفاء بالتزامات خدمة الدين الخارجي، من ناحية، ولتسديد فاتورة واردات الحبوب الغذائية، من ناحية أخرى، من دون ترك أي "فائض" يذكر لتمويل برامج التنمية والاستثمارات الجديدة... وفي أحوال كثيرة، نجد ان بعض الشروط المرتبطة بعمليات تجديد الديون وإعادة جدولتها شروط "غير مالية" وتمتد كي تفرض تصورات معينة لجماعة الدائنين حول "الإطار المؤسسي" الملائم لادارة العملية الاقتصادية في البلد النامي. بل قد يصل الأمر الى المدى الذي يجعل جماعة الدائنين تحصل على ما يشبه "عقد ادارة من الباطن" للاقتصاد الوطني المدين، لضمان حسن السير والسلوك، وفقاً لـ "قواعد المرور الدولية". عندئذ نجد ان رقعة "الاستقلال الوطني" وحرية "القرار الوطني" تتقلص الى أن تنتفي تماماً.
لعل هذا الاستعراض الموجز لأدوات السيطرة على مقدرات دول العالم الثالث، يوضح هول الأوضاع المتردية التي تعيشها معظم تلك الدول، حيث تعرضت كلها بدرجات مختلفة لعوامل التعرية، واختزِلت "رقعة الاستقلال الوطني" الى اضيق الحدود.
لـقـد هوى العالم الثالث من حالق، إذ بعدما تخلص من ربقة الاستعمار، صار مغلول الأيدي والأرجل والعقل والارادة.
يحدث كل هذا في الوقت الذي وصلت فيه وفرة السلع إلى مستويات لا سابق لها، والحبوب الغذائية لم تتوفر أبدا كما هوالحال الآن. المشكلة تكمن في التوزيع غير العادل للثروات الذي من جرائه يموت كل سنة 38 مليون شخص بسبب الجوع، ويعاني 822 مليون آخرين من سوء تغذية دائم، ومن مجموع 5.3 بليون نسمة هم سكان الدول النامية، فان قرابة الثلث لا يشربون مياهاً صالحة للشرب، وان أكثر من 20% من هؤلاء يعانون من سوء التغذية.
يقول الكاتب انه يكفي اقتطاع أقل من 4% من الثروة المتراكمة لما لا يزيد على 225 رجلا فقط هم أثرى أثرياء العالم، للوصول إلى تلبية حاجات كل دول العالم الثالث في الصحة والتعليم والغذاء، والتي لا تزيد كلفتها على ثلاثة عشر بليون دولار، أي بالكاد ما يصرفه سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سنويا على شراء العطور... وأقل بكثير مما ينفـقـه الأمريكيون والأوروبيون لإطعام الكلاب....
وبـعــد ؛
إن الحلَّ الأساسي لمعظم المشاكل التي تعاني منها دول العالم الثالث يكمن في احترام حرية الفكر ، فحرية الرأي وفتح الباب على مصراعـيه لتعـدد الأفكار هو المخرج، وهو صمام الأمان لكل شعب كـمـا أن إقامة الإطار الاجتماعي والسياسي السليم الذي يسمح بحرية التعبير لكافة الاتجاهات الفكرية والسياسية هو الطريق الوحيد للشعوب التي تنوي حقاً هزيمة مشاكلها.
أرقام يقـشَعِـرُّ منها البـَدَن
- التفاصيل