د. عبدالمنعم أبوالفتوح
مفهوم الإصلاح الشامل - الذي ينشده التيار الإسلامي ، يدور حول معنى (التنمية المستدامة) ، الذي يشمل الإنسان والدولة والمجتمع ، و"يتغلغل" في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية ، التي يشكل فيها الإنسان مركز الدائرة ، وتلتف حوله دوائر كثيرة ، أهمها: دائرة (الحرية) ، التي بغيابها تحل بالبشر أعظم كارثة ، وتتجسد في حياتهم أعلى صورة من صور الفساد في الأرض: ذلك أن الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان ، ومنحه (حرية المشيئة) ، وعندما تصادَر هذه القيمة الإنسانية العظيمة فإنما تتم المصادرة على معنى وجود الإنسان من الأساس ، وتلك أبشع جريمة تُرتكب على وجه الأرض ، باعتبار أنَّ رسالة جميع الرسل والأنبياء تهدف في الأساس إلى تحرير الإنسان من العبودية لغير خالقه سبحانه وتعالى.
وقد حسم الإسلام هذا الموضوع بأن حمل الإنسان (مشيئة الإرادة الحرة) قال تعالى: ؟فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمًن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ؟ (الكهف: )29 ، وقالها عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا".
وأرى أن هناك بعض الحقائق حول الحرية ينبغي الإحاطة بها:
1 - ليس هناك حرية بدون قدرة ، فالذي يقول إنه حر لابد أن يملكَ مقوًّمات الرفض كما يملك مقومات القبول.
2 - ليس هناك مجال للحرية بالمعنى المطلق ، فلابد أن تنتظم تلك الحرية مع قيم المجتمع ومبادئه وأعرافه.
3 - الحرية حق لمن يعمل وينتج ويشارك الآخرين الحياة.
4 - المساواة بين الناس أجمعين في ممارسة الحقوق.
ثم تنطلق من حول هذا الإنسان (الحر) (الرشيد) كل صور الإصلاح الشامل:
أ - الإصلاح التعليمي
الذي يقوم على الطريقة العلمية في اتصال التربية والتعليم بمقتضيات الحاضر والمستقبل تعليميًّا لا تلقينيًّا ، يتصل باحتياجات المجتمع ، ويشمل كل الأمة - ذكورًا وإناثًا - ويتحول إلى عمل يومي مستمر ، لا ينتهي بالتخرج من فصول الدراسة ، بل يستمر لتأهيل النشء لإخراج طاقاتهم وقدراتهم الكامنة ، وتزوديهم بكل ما من شأنه أن يغرس فيهم القدرة على رجاحة الحكم ، والإعلاء من قيمه الحوار ، وتثبيت معنى الاختلاف والتعدد على أنه من حقائق الحياة ، وأن يتعلم كيف يقول "نعم" وكيف يقول "لا" في اعتزاز وكرامة ، وأن يتعود على التفكير الإبداعي المثمر ، الذي يرفض التقليد والإمَّعيَّة ، ويتأكد لديه الشعور الذاتي بالمسئولية والعطاء والمشاركة والتعاون ، وهو ممتلئ إحساسًا بالكرامة التي أرادها له خالقه عز و جل.
ب - الإصلاح الاقتصادي
الذي يتجه نحو العدل الكامل فى توزيع الثروة والدخول باتباع سياسات عملية صحيحة لبناء نهضة شاملة ، تكون الركيزة الأساسية فيها تنميه القدرات ، وتهيئة مناخ التشغيل الكامل ، وتوفير فرص عمل جيدة ، وتأمين اجتماعي فعال ، وقد أثبتت كثير من تجارب الإصلاح الاقتصادي الحديثة - خاصة في التجارب الآسيوية - أن المشروعات الصغيرة من أهم أدوات توفير فرص العمل.
كل هذا يتطلب قيام روح اجتماعية جديدة تتعاون فيها حكومة نشطة ذات قدرات فعالة مع قطاع خاص وأهلي يتمتع بالحيوية والإحساس الوافر بالمسئولية الاجتماعية ومؤسسات مدنية قوية تمثل مختلف فئات الشعب من برلمان ونقابات وصحافة وجمعيات أهلية وأجهزة رقابة شعبية ، وإصلاح الجهاز الإداري إصلاحًا كاملاً وتحديثه وتطويره على أرفع مستوى من مستويات الأداء الإداري الفعال ، وأعتقد أن مجتمعاتنا تملك من الطاقات والقدارت في علم الإدارة ما يكفل تحقيق كل ذلك على نحو صحيح تمامًا.
جـ - الإصلاح السياسي
أود أن أشير في هذا الخصوص إلى أنه ليس للتيار الإسلامي أيُّ تصور لتنفيذ الإصلاح السياسي إلا (صندوق الانتخاب) ، وليس من وسيلة أخرى على الإطلاق لتحقيق هذا الإصلاح المنشود إلا (الديمقراطية الإنسانية) ، التي تحدثتُ عنها سابقًا ، وأؤكد في هذا الجانب ما ذكرناه مرارًا وتكرارًا:
1 - المواطنة في الدولة المدنية المنشودة هي أساس الوجود في المجتمع داخل إطار ديمقراطي ، وكل من رضي بهذا الإطار يكون على قدم المساواة مع الآخرين بكل اتجاهاتهم الفكرية والسياسية ، والجماهير هي الحكَم من خلال انتخابات حرة ونزيهة ، مع التأكيد على وضع كل الضمانات التي تحفظ التحييد والنزاهة: حتى يتحول شرف الصوت الانتخابي للفرد إلى جزء لا يتجزأ من شرفه الشخصي.
2 - النظام الديمقراطي النيابي - من برلمان وأحزاب وتعددية كاملة - هو أكثر الصيغ فعالية لحماية الحرية ، والحفاظ على قوه المجتمع ، ومنع الاستئثار بالسلطة ، الذي يكاد يكون عيبًا إنسانيًّا لا يخلو منه بشر: لذا فإنه يتحتم على نحو صارم وضع القوانين والدساتير وأدوات المراقبة والمساءلة التي تحد من الآثار البشعة لهذا العيب على الشعوب والأوطان.
3 - إعلاء شأن الأمة على شأن الدولة ، فالدولة (الديناصور) - كما وصفها "توماس هويز" - أصبحت أحد أسوأ العيوب في حضارة إنسان القرن الحادي والعشرين: الأمر الذي يستوجب تقوية الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية ، وكل ما من شأنه أن يجعل دور الأمة فاعلاً ومؤثرًا ومانعًا من (توحش) الدولة.
4 - المساواة السياسية والقانونية الكاملة بين كل فئات المجتمع وطوائفه ، ووضع كل الضمانات لحماية هذه المساواة من أي انحراف سياسي أو مذهبي.
د - المرأة والإصلاح الشامل
1 - الأصل في التكاليف الإسلامية هو العموم ، فليس هناك إسلام للرجل وإسلام للمرأة ، والمجتمع السويُّ الصحيح يتحرك أفراده في طُهر وتلقائية دون حرج أو عُقَد أو توتر في اتصال أفراده بعضهم ببعض.
2 - المرأة تكوين عقلي وروحي ، ونفسي وجسدي ، والإسلام يحضها على أن تقدم نفسها للمجتمع بعقلها وفكرها وروحها بكل ما تملك من قدرات وإمكانات ، أما جسدها فلا يهم المجتمع في شيء ، وليس مطروحًا للاهتمام ، ولا يجب أن يكون كذلك ، وهذه أحد وجوه الارتقاء بالمرأة والإعلاء من شأنها ككيان إنساني.
3 - الإسلام هو الدين الذي قدم شهادة ميلاد (المرأة الإنسان) ، التي تتمتع بكافة الحقوق التي تحفظ لها الكرامة الكاملة.
4 - حجاب المرأة المسلمة هو في حقيقته هويةّ وانتماءّ قبل أن يكون شكلاً وغطاءً ، ولنتذكر بهذا الصدد الساري الهندي.
وأود الإشارة إلى عدة نقاط متفرقة أرى أنه من المهم للغاية طرحها:
1 - الخطاب الإصلاحي الإسلامي خطاب بشري ، وليس خطابًا مقدسًا: إنما هو اجتهاد بشري في فهم نصوص الإسلام ، وبالتالي فمن يختلف معنا فهو يختلف مع فهمنا ، ولا يختلف مع الإسلام.. أرجو أن تكون هذه النقطة شديدة الوضوح للجميع ، ولا أدرى ما يمكن أن يقال في هذه النقطة تحديدًا أكثر من ذلك،
2 - العمل المسلح في تاريخ جماعة (الإخوان المسلمين) كان مقترنًا بوجود احتلال أجنبي: وهو أمر تاريخي لا وجود له على الإطلاق في مرحلة الدولة الوطنية ، مهما كانت مساحة الاختلاف.
3 - ميدان (صناعة الإنسان) وصياغته الصياغة الربانية السليمة هو أهم ميدان في حركتنا نحو الإصلاح.
4 - هدف الحكم في رؤية التيار الإسلامي هو سعادة المحكومين ، وتحقيق السلام والاستقرار في الداخل ، والعزة والاحترام في الخارج ، والحاكم وكيل الأمة ، وليس له عليها سيادة ، بل هي سيدته ، وهو خادمها.
5 - الحضارة الإنسانية في رؤية الإسلاميين يجب أن تسير في حماية أمرين أساسيين: السياسة السليمة ، والأخلاق القويمة.
السياسة السليمة التي تقوم على الحرية والعدل والمساواة بين البشر ، فكلهم لآدم ، وآدم من تراب كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، والأخلاق القويمة تعتمد على وضع حاجات الإنسان على أساس سليم ، وتهذيب اختياراته ورغباته ، وعدم الإلحاح عليه بالآلة الإعلانية الساحقة: كي يستبد به سعار الاقتناء والاستهلاك الذي لا يتوقف عند حدّْ ، ويدفع به إلى ما لا تُحمَد عواقبه من أفعال.
المفهوم الإسلامي للإصلاح الشامل
- التفاصيل