بثينة محمود
"لا يأتي انصهارنا مع الآخر صدفة .. بل هو وليد تاريخ تسطره أيامنا المشتركة معا" ..!ا
***
التقيتها أخيراً .. أخيراً جداً .. جمعتنا المصادفة في مناسبة عائلية فتركتها تضمني كما كانت تفعل دوماً ونحن صغار .. فقد كانت الأكبر و حنانها يفيض على الجميع .. وسألتني زيارتها في مدينتها الساحلية عند ذهابي فوعدتها بالزيارة صادقة .. وكيف لا أفعل وهي جزء مني شئت أم أبيت.. تاريخنا مشترك من اليتم والتحفز لأفعال وأقاويل الأهل.. واغتراب نحياه داخل أنفسنا مهما تظاهرنا بالتفاعل مع من حولنا .. اغتراب يجعلنا لا نفعل سوى الابتسامات المؤقتة ..نأنس لها .. لنستمر في الحياة بقوة دفع خفية .. كل على حده .. كل في صمت
خجلت أن أسأل عنها الأهل قبل ذهابي .. أخجل دوماً من السؤال عمّن أعتبرهم قريبين من القلب .. المفترض أن أعرف .. وكأن الحرج نال مني فأحجمت .. لذا ذهبت لها بجهلي عن تفاصيل حياتها .. آخر ما وصلني عنها هو زواج ثان طُلقت منه بعد عزوف طويل عن معاودة الكرّة زاد عن عشرين عاماً تفرغت فيهما لتربية الطفلين
لعل طلاقها الثاني هو مصدر الحرج
الطلاق الأول قد يُغتفر أما الثاني فقد يحكم على صاحبته بالإنزواء الأبدي.. وأظنه قد فعل
ربما تناثرت بين الأهل أقاويل شتّى عن جنون زوجها الثاني وغيرته الحمقاء عليها .. و ترديد بعض الكبار أن لديه الحق كل الحق فرغم كل شىء مازال للورد رائحة جميلة .. وهي كانت بارعة الجمال .. لقد اكتفت سيدات العائلة بالصمت .. أقعدهن جمالها الهادىء واتزانها المعتاد عن خوض بحار نميمة لا تنتهي
لماذا لم أعد أسمع عن أخبارها شيئاً ؟ هل زهدوا سيرتها ؟
أظنه الجيل الجديد من فتيات العائلة بجنونه واندفاعه قد جذب الانتباه بعيداً عن الكبيرات في الاهتمام والتحري
..
رجل فضي الشعر هو من استقبلني أولاً بابتسامة مرحبة .. حسبتني أخطأت العنوان حتى لمحت شعرها الأحمر يتألق فوق رأسها من خلفه .. زالت غربتي القليلة عندما جذبتني إلى أحضانها منادية إياي باسم لم اسمعه منذ سنين
قدمتني إلى الرجل .. وقدمته إلي .. أستاذ جامعي أسبق و زوجها
تركت نفسي لذكرياتي معها وضحكاتنا التي علت وهو يشاركنا بابتسامه صغيرة .. ورغم قوامه الرياضي وإشراقة وجهه لم يستطع إخفاء ارتعاشة يديه وهو يحشو البايب بوريقات التبغ الصغيرة
تركتني معه للحظات فتبادلنا كلمات المجاملة وعادت وقدمت له فنجان قهوة تركي تفوح منه رائحة حبهان مطحون .. ثم لمست شعره الفضي اللامع برقة متناهية وانحنت لتطبع عليه قبلة خاطفة قبل أن تجلس وتسألني عن أحوالي
ملأت روحي السعادة لأجلها .. هل هناك أجمل من روح محبة تنقضي معها وفي أحضانها أيامنا المتبقية .. وبدأت عيناي تجوبان المكان لأطالع ذوقها الرائع منثور هنا وهناك
ومع طول جلستي وامتداد أحاديث الذكريات .. تنبهت لغرابة الأشياء من حولي وكأن كل منهما حمل ماضيه معه ووضعه - بعناية في عشهما الصغير .. رأيت أشيائهما الجميلة تأبى الانصهار
رأيت مقعدها يختلف عن مقعده .. يتجاوران في مواجهة الشرفة المطلة على البحر من عل لكنهما مختلفان .. رأيت شرفتهما تحوي نبتات خضراء زاهية لا تشبه بعضها البعض تتجاور في آنية واحدة تهتز وكأنها تشكو غربة ما .. رأيت عصفورين مختلفين في قفص واحد يستكين كل منهما في ركن بعيدا عن الآخر .. نعم لهما ذات الريش الملون لكنهما يبدوان وقد انتزعا من أقفاصهما ليظلا حبيسين معا
وسمعت .. رنين راقص لهاتفها يناديها ألف مرة في مكالمات عمل .. وهاتفه صامت كالصحراء .. لم أسمع له رنين
سمعت حكاياه عن أسفاره التي لم تشاركه فيها .. وسمعت عن نجاحاتها في عملها الذي لا يعرف عنه شيئاً
سمعت حديثه الدائم عن ابنه المهاجر .. و أحاديثها المطولة عن أولادها ونجاحاتهم وأحفادها الذين أوشكوا على المجىء إلى الحياة
سمعته يحكي عن عشقه للعاصمة التي حرم منها في شبابه كثيراً نظراً لسفره للدراسة والتدريس ورغبته في زيارات دائمة للأوبرا
وسمعتها تشير إلى مقتها للعاصمة وشرائها لبيت بحديقة واسعة على شاطىء البحر لتمضي فيه كل أيامها بعد انقضاء سنوات عملها الشاق
شقّ علي أن أتمزق بينهما جيئة وذهاباً .. أحسست تعباً .. وأدركت أنها ربما تكون في طريقها لمزيد من الانزواء
وضعت على خدها قبلة وداع قبل أن أغادر
خُيل إليّ أني أفهم – حد الوجع - معنى ابتسامتها الأخيرة
مدونة طيارة ورق