نوال السباعي
بدت في الآونة الأخيرة موجة منتظرة من انتشار اليأس وخيبة الأمل بين قطاعات صناع الرأي في المنطقة العربية ، منشأها الطبيعي شعور هذه الطليعة من اسلاميين وقوميين وعلمانيين بعدم قدرتهم الوصول الى الناس ، فالوصول إلى الناس يعني بدء تباشير التغيير في المنطقة ، الشيء الذي نراه يمضي بخطى وئيدة شبه ميتة ، وحتى عندما يحدث بعض التغيير ، نجده ظاهريا لايتجاوز الحناجر ، ولايمتد إلى عمق تفكير الناس وقناعاتهم وسلوكياتهم ، ولاأتحدث هنا عن عامة الناس بل عن نخبة النخبة منهم.
عبارات شديدة الخطورة صارت عادية في خطابات الصحفيين والادباء والاعلاميين ، مثل "طالما تحدثت عن هذا منذ ثلاثين عاما" ، و"لقد ذكرت لكم ذلك مرارا وتكرارا منذ خمسة أعوام ودون فائدة ترجى" ، و" لقد بحت أصواتنا ونحن نردد هذه المقولة " ، ولاأنكر أنني أنا نفسي قد استخدمت هذه العبارات في العديد من مقالاتي ، ذلك أن الوضع الذي وصلت اليه المنطقة العربية يبدو – وأقول يبدو- من الانحدار الى درجة لم يعد بينه وبين الهاوية إلا القفزة الأخيرة !، أم أننا في الهاوية نتردى منذ سقوط بغداد الأخير ونحن لاندري!!.
لقد كان من المضحك المبكي خلال العقدين الأخيرين أن يخرج علينا النقاد بمقولة "جلد الذات" التي كانوا يواجهون بها الكتاب والصحفيين الذين استشرفوا الواقع الكارثي الذي نعيشه اليوم ، فما إن تكتب شيئا تشرح فيه أوضاع الأمة حتى يجرد أحدهم لسانه وقلمه ليجلدك جلدا أليما لأنك وكما يقول تمارس "لعبة " جلد الذات ، وكأن شرح ملابسات الواقع الذي وصل إليه المريض جريمة !.
وأنا أكتب عن واقعنا أحتار كثيرا في ايجاد الكلمات المناسبة لشرح أعراض الأمراض الاجتماعية والانسانية والأخلاقية والسياسية التي نعانيها ، وأجد صعوبات كبيرة في انتقاء الكلمة المناسبة للحالة الموصوفة ، بينما ينصب تفكيري على طبيعة فعل هذه الكلمة في ضمير القاريء الذي اعتاد على نفس الكلمات بنفس التعبيرات في نفس الموضوعات ، ناهيك عما يعانيه وهو يقرأ إعادة صياغة نفس الموضوعات التي تمَّت سرقتها ، لتجدها منشورة بأسماء لامعة أحيانا ومغمورة أحيانا أخرى في زوايا الصحف والمجلات ، دون أن يشعر أصحابها -وبعضهم من الاسلاميين- بأي حرج وهم يقومون بسرقة زملائهم الفكرية ، ودون أن يشيروا ولو من باب شرف المهنة إلى أصحاب المقالات والأفكار الأصلية.
إنها صورة غير مشرفة عن هذا السقوط ، ولم أعرضها هنا إلا لأشير من خلالها إلى العقم الفكري الذي وصلنا إليه ، نحن عاجزون عن إنتاج الفكر المناسب للمرحلة التي نعيش ، بعضنا يسرق من الكتاب والصحفيين والمفكرين الغربيين أفكارهم الجاهزة ولا يكلف نفسه عناء الإشارة إليها ولاإليهم ، بعض الصحف والمواقع الالكترونية لايمكن أن تنشر لك الهوامش التي ذيلت بها مقالاتك راداً كل مااستقيته من فكر وخبر إلى أهله ! .
بعضنا يسرق من بعضنا ، وبعضنا يسرق من نفسه ، وأنا ألجأ أحيانا إلى السرقة من نفسي لأنني أجد نفسي عاجزة عن إعادة الكتابة في نفس الموضوع ألف مرة أمام وقوع الكارثة بحذافيرها ألف مرة !! ، كنت أتمنى لو أن الصحف العربية تسمح بإعادة نشر مقالات قديمة لنفس كتابها يختارونها من أرشيفهم ، ليكتشف الكاتب والصحيفة والاعلام والقاريء أن ماكتب قبل خمسين أو ثلاثين أو عشرين سنة يمكن نشره بكل صدق ودقة وموضوعية اليوم لمعالجة نفس الملابسات السياسية والاجتماعية التي كتب فيها ومن أجلها!.
بينما كنت أبحث عن مصطلح "جلد الذات" وأنا أكتب هذا الموضوع عثرت على موضوع أثار انتباهي للكاتب " عمار بكار " بعنوان " الفرق بين نقد الذات وجلد الذات" منشور في موقع العربية نت ، نقلا عن جريدة الاقتصادية السعودية بتاريخ 30/10/2006، يقول فيه صاحبه : (لن أسعى لإثبات أهمية "النقد الذاتي" فهذا أمر تجاوزه الناس منذ زمن بعيد، فبدون البحث عن المشكلة وتحريرها وتحديد معالمها وحدودها وتفاصيلها ومناقشة الأدلة والحقائق المرتبطة بها، يصعب جدا التخطيط لعلاج المشكلة. وإذا كنا نتحدث عن وضع شديد القتامة وشديد التعقيد في آن واحد مثل الوضع الذي تعانيه معظم الدول العربية والإسلامية من تخلف على مختلف الأصعدة وحاجة هائلة لإصلاح شامل، فإن هذا يعني أننا نحتاج لـ "نهر جار" من النقد الذاتي الذي يسعى لتحديد المشكلات ومعالجتها) ، ويضيف : (أعرف تماما أن حياتنا اليومية ليست قاتمة، فكثير من العرب ينعم بحياة جميلة كل يوم ويلقى ما يحتاج إليه من عناية، وما يلزمه من صحة وغذاء، وينعم بالضحك والخير الوفير، ولكن هذا ليس مبررا للتوقف عن نقد الذات ، بل هو في الحقيقة السبب الرئيسي لأن يأتي الكتاب والفنانون والأدباء فيمارسون "الوخز الحاد" حتى نصحو من سبات النوم ونرى الحقيقة كاملة بدلا من أن نرى ما يحدث عند أصابع أقدامنا فقط. إن الحقيقة مرة، وتثبتها الأرقام كما تثبتها كل نشرة أخبار عربية بلا استثناء، ولم نصل لهذا الوضع الغريب إلا لأسباب نحتاج لأن نعرفها ونحللها حتى نستطيع أن نعالجها).
توقفت عند ماقاله "عمار بكار" عن أن "كثيرا من العرب ينعم بحياة جميلة كل يوم ، ويلقى مايحتاجه من عناية ومايلزمه من صحة وغذاء" ...بل و" ينعم بالضحك والخير الوفير"! مع أنه أكد لاحقا في نفس المقطع على أن "الحقيقة مُرّة وتثبتها الأرقام" ! ، لقد وجدت في هذا المقال مايمكن أن يلخص كتابا كاملا عن المراوحة بين مفهوم النقد وبين مفهوم الجلد .
النقد هو أن تعترف بأن العرب بخير وخير عظيم يأكلون ويضحكون ، ولكنهم مع هذا في مصيبة وكارثة مريرة تؤكدها الاحصائيات ، أما الجلد فهو أن تعرف يقينا أن الذين يتمتعون بحياتهم من العرب –بأدنى مايستحقه الإنسان من حاجات طبيعية – لايتجاوز 2% من مجمل سكان المنطقة العربية التي يعيش 78% من أهلها تحت خط الفقر المدقع ، ويضحكني بالفعل أهلي وأحبابي من السوريين – كسورية دمشقية- في المهاجر ممن يدَّعون ويُرَوجون أنهم أفضل خلق الله جميعا ، يضحكونني لأنهم مساكين لا يعرفون ولا يعترفون أن امرأة مظلومة على الأقل في سورية لاتجد من ينصرها أبدا لامن أسرتها ولامن أسرة زوجها ولامن كل المشايخ والفقهاء والأئمة والوعاظ في بلدها ولافي محافظة مدينتها ولامن الحزب الحاكم ولامن الحكومة المنتخبة ، وأن أعداد السوريين المهاجرين والمهجرين تكاد تناهز اليوم أعداد اللاجئين الفلسطينيين في مشارق الأرض ومغاربها!!، وماذلك إلا لأنهم شعب الله المختار المحتار تقلبا بين النعم والامتيازات يعيش متوهما أنه دخل مسلسلا دراميا من مسلسلاته التي تسد على العرب منافذ التفكير وتقدم لهم صورة كاذبة مشوهة عن نساء سورية ورجالها وحاضرها وماضيها كذلك، يروج له الشعب نفسه بالكذب على نفسه.
الفرق بين نقد الذات وجلدها ، هو الفرق بين أن أعرف أن تلك المرأة مظلومة مقطوعة لامطلقة ولامعلقة لايأتيها رزقها ولاكرامتها ولاإنسانيتها ولاحريتها، ولكنها قد تجد ولو محاميا واحدا أو شيخا واحدا أو سياسيا واحدا يمكنه أن يعالج مشكلتها ويجد لها حلا في دولة اشتراكية ديمقراطية يدّعي أهلها أن معظمهم يدينون بالرسالات الالهية ، وبين أن أنشر خبر انتحار تلك المرأة بعد أن سُدّت في وجهها كل الأبواب ، أبواب الأسرة وأبواب المؤسسات المدنية وأبواب الدولة وحتى أبواب السماء التي جعلها بعض أصحاب العمائم في بلادنا وقفا عليهم لاتفتح إلا من خلال فتاواهم الرجولية التي لارحمة فيها ولاإنسانية ولاإسلام!!.
الفرق بين جلد الذات والنقد الذاتي هو الفرق بين أن تذهب إلى الدار البيضاء في المغرب فتتجول في أحياء أغنيائها الجميلة ، فيزعجك أن العناية بها لاتشمل كل أحياء المغرب وقراها ، وبين أن تذهب إلى أطراف المدينة فترى وتكتب عن مدن الصفيح والمهانة الممتدة نحو الأفق ، المسيجة بأسوار تحجب عنك حجم البؤس الإنساني الذي لايمكن أن يتصوره عقل ولامنطق والذي يدفع بابناء المغرب – وغيرهم من المشرق- للهجرة والفرار حتى لو كان في ذلك حتفهم.
تثير الانتباه والاستهجان حفلات "جلد الذات" الشيعية في المنطقة العربية ، والتي تتطابق شكلا ومضمونا مع حفلات "جلد الذات" النصرانية الاسبانية في احتفالات الجمعة الحزينة ، حيث يقوم البعض بالتجول حفاة عراة يجلدون ظهورهم حتى تسيل منها الدماء ، هذه الآلام الجسدية تجعل القوم يعيشون آلام "من قَدسوهم" ، يحتاج القوم الى ألم عظيم حتى يستطيعوا استيلاد فهم عظيم لأمر يستعصي على الفهم ، وسقوط الأمم أمام مرأى ومسمع من أبنائها الساهين اللاهين لهو أمر يحتاج إلى أكثر من الجلد الدموي وأشد من مهرجانات النواح الجماعي ! ، إنه يحتاج منا إلى وقفة وهبة وتجند ، وكما قال لي " عبد العزيز آل المحمود " مرة : إنه يشعر كلما قرأ مثل ذلك ، وكأن من كتبه قد صعد إلى قمة جبل عال ليستطلع الطريق فوجدها وعرة خطيرة رهيبة تودي الى هاوية ، فصار يصيح بأعلى صوته أيها الناس الطريق ..الطريق ..ولكن مامن مجيب.