من وحي القلم للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي
إعداد: أيمن محمود
حوار بين الشيخ الإمام أبي محمد سليمان الأعمش (مُحَدِّثُ الكوفة وعالمُها) وتلميذه أبومعاوية الضرير بعد انتهاء مجلس
الحديث في مسجد الكوفة:
..................................
أبو معاوية: وانفض المجلس، ومنعني الشيخ أن أقوم مع الناس، وصرف قائدي؛ فلما خلا وجهه، قال يا أبا معاوية، قم معي إلى الدار: قلت: ما شأن الدار يا أبا محمد؟ قال: إن (تلك) غاضبة علىّ، وقد ضاقت الحال بيني وبينها، وأخشى أن تتباعد، فأريد أن تُصلِح بيننا صلحًا.
قلت: فمم غضبُها؟ قال: لا تُسأل المرأة مم تغضب، فكثيرًا ما يكون هذا الغضب حركة في طباعها، كما تكون جالسة وتريد أن تقوم فتقوم، وتريد أن تمشي فتمشي!
قلت: يا أبا محمد، هذا آخر أربع مرات تغضب عليك غضب الطلاق، فما يحبسك عليها والنساء غيرها كثير.
قال: ويحك يا رجل! أبائعُ نساءٍ أنا، أما علمت أن الذي يُطلِّق امرأة لغير ضرورة ملجئة، هو كالذي يبيعها لمن لا يدري كيف يكون معها وكيف تكون معه؟ إن عمرَ الزوجة لو كان رقبة وضُربت بسيف لكان هذا السيف هو الطلاق!
وهل تعيش المطلقة إلا في أيام ميتة؟ وهل قاتِلُ أيامها إلا مطلِّقُها؟
قال أبو معاوية الضرير: وكنت في الطريق إلى دار الشيخ أُرَوِّيء في الأمر، وأمتحن مذاهب الرأي، وأقلِّبُها على وجوهها، وأنظر كيف أحتال في تأليف ما تنافر من الشيخ وزوجته؛ فإن الذي يَسفُرُ بين رجل وامرأته إنما يمشي بفكره بين قلبين، فهو مُطفىء نائرةٍ أو مُسْعِرُها، إذ لا يضع بين القلبين إلا حمقه أو كياسته، وهو لن يردَّ المرأةَ إلى الرأي إلا إذا طاف على وجهها بالضحك، وعلى قلبها بالخجل، وعلى نفسها بالرقة، وكان حكيمًا في كل ذلك؛ فإن عقل المرأة مع الرجل عقل بعيد، يجىء من وراء نفسها، من وراء قلبها.
وجعلتُ أنظرُ ما الذي يُفسِدُ محلَّ الشيخ من زوجته، ومثَّلتُ بينه وبينها، فما أخرج لىَ التفكير، إلا أن حسنَ خُلُقِه معها دائمًا هو الذي يستدعي منها سوء الخُلُُق أحيانًا؛ فإن الشيخ كما ورد في وصف المؤمن: "هَيِّن لَيِّن كالجمل الأنُف، إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ"، والمرأة لا تكون امرأةً حتى تطلب في الرجل أشياء: منها أن تحبَّه بأسباب كثيرة من أسباب الحب؛ ومنها أن تخافَه بأسباب يسيرة من أسباب الخوف. فإذا هي أحبته الحب كله، ولم تخف منه شيئًا، وطال سكونُه وسكونُها، نفرت طبيعتها نفرة كأنها تُنَخِّيه وتُذَمِّرُه، ليكون معها رجلاً فيخيفها الخوف الذي تستكمل به لذة حبها، إذ كان ضعفُها يحب فيما يحبه من الرجل، أن يقسو عليه الرجل في الوقت بعد الوقت، لا ليؤذيه ولكن ليُخضعه؛ والآمر الذي لا يخاف إذا عُصِىَ أمره، هو الذي لا يُعبأُ به إذا أطيعَ أمره.
وكأن المرأة تحتاج طبيعتها إلى مصائب خفيفة، تؤذي برقة أو تمر بالأذى من غير أن تلمسها به، لتتحرك في طبيعتها معاني دموعها من غير دموعها؛ فإن طال ركود هذه الطبيعة، أوجدت هي لنفسها مصائبها الخفيفة، فكان الزوج إحداها...!!
وهذا كله غيرُ الجرأة أو البَذَاء فيمن يُبغضن أزواجهن، فإن المرأة إذا فركت زوجها لمنافرة الطبيعة بينها وبينه، مات ضعفها الأنثويُّ الذي يتم به جمالها واستمتاعها والاستمتاع بها، وتعقَّد بذلك لينُها أو تصلَّب أو استحجر، فتكون مع الرجل بخلاف طبيعتها، فينقلب سُكْرُها النسائي بأنوثتها الجميلة عربدة وخلافًا وشرًا وصخبًا، ويخرج كلامها للرجل، وهو من البغض، كأنه في صوتين لا في صوت واحد.
للقصة بقية....