إعداد: أيمن محمود
قال أبو معاوية: واستأذنت على (تلك)، ودخلت بعد أن استوثقت أن عندها بعض محارمها؛ فقلت: أنعم الله مساءك يا أم محمد. قالت: وأنت فأنعم الله مساءك.
فأصغيت للصوت، فإذا هو كالنائم قد انتبه يتمطى في استرخاء، وكأنها تَقْبلني به وتردُّني معًا، لا هو خالص للغضب ولا هو خالص للرضى.
فقلت: يا أم محمد، إني جائع لم ألمَّ اليوم بمنزلي. فقامت فقربت ما حضر وقالت: يا أبا معاوية، فإنما هو جُهْدُ المُقِلّ، وليس يعدو إمساك الرمق. فقلت: إن الجوعان غير الشهوان؛ والمؤمن يأكل في معيّ واحد ولم يخلق الله قمحًا للملوك وقمحًا للفقراء.
ثم سميت ومددت يدي أتحسس ما على الطبق، فإذا كِسَرُ من الخبز، معها شىء من الجزر المسلوق، فيه قليل من الخلّ والزيت؛ فقلت في نفسي: هذا بعض أسباب الشر؛ وما كان بي الجوع ولا سَدُّه، غير أني أردت أن أعرف حاضر الرزق في دار الشيخ، فإن مثل هذه القلة في طعام الرجل هي عند المرأة قلة من الرجل نفسه؛ وكل ما تفقده من حاجاتها وشهوات نفسها، فهو عندها بمعنيين: أحدهما من الأشياء، والآخر من الرجل: كلما أكثر الرجل من إتحافِها كثُر عندها، وإنْ أقلَّ قلَّ.
قال أبو معاوية: وأريتها أني جائع، فَنَهَشتُ نهش الأعرابي، كيلا تفطن إلى ما أردتُ من زعم الجوع؛ ثم أحببتُ أن أستدعي كلامها واستميلها لأن تضحك وتُسر، فأغير بذلك ما في نفسها، فيجد كلامي إلى نفسها مذهبًا؛ فقلت: يا أم محمد، قد تحرَّمتُ بطعامك، ووجب حقي عليك، فأشيري عليَّ برأيك فيما أستصلح به زوجتي، فإنها غاضبة عليّ، وهي تقول لي: والله ما يقيم الفأر في بيتِك إلا لحب الوطن... وإلا فهو يسترزق من بيوت الجيران!!
قالت: وقد أُعدَمَتْ حتى من كِسَر الخبز والجزر المسلوق؟
الله منك! لقد استأصلتها من جذورها؛ إنَّ في أمرأض النساء الحُمَّى التي اسمها الحُمَّى، والحُمَّى التي اسمها الزوج!!
فقلت: الله الله يا أم محمد؛ لقد أيسَرتِ بعدَنا، حتى كأن الخبز والجزر المسلوق شيء قليل عندك من فَرْط ما يتيسر؛
أو ما علمتِ أن رزق الصالحين كالصالحين أنفسِهم، يصوم عن أصحابه اليوم واليومين... وكأنك سمعت شيئًا من أخبار أمهات المؤمنين، أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه ــ رضوان الله عليهم ــ؛
فما خير امرأة مسلمةٍ لا تكون بأدبها وخُلُقِها الإسلامي كأنها بنت إحدى أمهات المؤمنين؟
أفرأيتِ لو كنتِ فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم؛ أفكان ينقلك هذا إلى أحسن مما أنتِ فيه من العيش؛ وهل كانت فاطمة بنت ملك تعيش في أحلام نفسها، أو بنت نبيٍّ تعيش في حقائق نفسها العظيمة؟
تقولين أنني استأصلت أم معاوية من جذورِها؛ فما أم معاوية وما جذورها؟ أهي خير من أسماء بنت أبي بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قالت عن زوجها البطل العظيم: تزوَّجَني وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شىء غير فرسه وناضحه (الإبل يستسقي عليها)، فكنت أعلف فرسه وأكفه مؤنته وأسوسُه، وأدقُّ النوى لناضحه وأعلُفُه، وأستقي الماء وأخرز قَربَه (دلو من جلود الثيران) وأعجن، وكنت أنقل النوى على رأسي من ثلثي فرسخ، حتى أرسل إلىّ أبو بكر بجارية، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني!
هكذا ينبغي لنساء المسلمين في الصبر والإباء والقوة، والكبرياء بالنفس على الحياة كائنة ما كانت، والرضا والقناعة ومؤازرة الزوج وطاعته، واعتبار ما لهنَّ عند الله لا مالهنَّ عند الرجل، وبذلك يرتفعن على نساء الملوك في أنفسهن، وتكون المرأة منهن وما في دارها شىء، وعندها أنَّ في دارها الجنة. وهل الإسلام إلا هذه الروح السماوية التي لا تهزمها الأرض أبدًا، ولا تُذِلُها أبدًا، ما دام يأسها وطمعها معلَّقين بأعمال النفس في الدنيا، لا بشهوات الجسم من الدنيا؟
هل الرجل المسلم الصحيح الإسلام، إلا مثل الحرب يثور حولَها غبارُها، ويكون معها الشظف والبأس والقوة والاحتمال والصبر، إذ كان مفروضًا على المسلم أن يكون القوةَ الإنسانية لا الضعف، وأن يكون اليقين الإنساني لا الشك، وأن يكون الحق في هذه الحياة لا الباطل؟
وهل امرأة المسلم إلا تلك التي المفروض عليها أن تُمِدَّ هذه الحرب بأبطالها، وعَتَاد أبطالها؛ ثم ألا تكون دائمًا إلا من وراء أبطالها؟ وكيف تلد البطل إذا كان في أخلاقها الضعة والمطامع الذليلة والضَّجَر والكسل والبلادة؟ ألا إن المرأةَ كالدار المبنية، لا يسهُلُ تغيير حدودها إلا إذا كانت خرابًا.
للقصة بقية...
من وحي القلم - للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي