إعداد/ أيمن محمود
ويحك يا أبا محمد (يعني سعيد بن المسيب الفقيه العالِم) لكأنَّ دَمَكَ ــ والله ــ من عدوك؛ فهو يفور بك لتَلِجَّ في العناد فتُقتَل، وكأني بك ــ والله ــ بين سَبعَين قد فَغَرَا عليك؛ هذا عن يمينك وهذا عن يسارك، ما تفرُّ من حتف إلا إلى حتف، ولا ترحمك الأنياب إلا بمخالبها.
هاهنا هشام بن إسماعيل عامل أمير المؤمنين، إن دَخَلَتْهُ الرحمةُ لك استوثق منك في الحديد، ورمى بك إلى دمشق، وهناك أمير المؤمنين، وما هو ــ والله ــ إلا أن يُطعمَ لحمك السيف يعضُّ بك عضَّ الحياة في أنيابها السُّمّ؛ وكأني بهذا الجنب مصروعًا لمضجعه، وبهذا الوجه مضرَّجًا بدمائه، وبهذه اللحية مُعَفَّرةً بترابها، وبهذا الرأس مُحْتَزًّا في يد (أبي الزُّعَيْزِعَة) جلاد أمير المؤمنين، يلقيه من سيفه رَمْىَ الغصنِ بالثمرة قد ثقلت عليه.
وأنت (يا سعيد) فقيه أهل المدينة وعالمُها وزاهدُها، وقد علِم أمير المؤمنين أن عبد الله بن عمر قال فيك لأصحابه: "لو رأى هذا رسولُ الله لَسَرَّه" فإن لم تَكْرُمْ عليك نفسُك فلْيَكْرُمْ على نفسك المسلمون؛ إنك إنْ هَلَكْتَ رجع الفقه في جميع الأمصار إلى الموالي؛ ففقيه مكة عطاء، وفقيه اليمن طاووس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن، وفقيه الكوفة إبراهيم النخعيّ، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني. وإنما يتحدث الناس أن المدينة من دون الأمصار قد حرسها الله بفقيهها القرشي العربي (أبي محمد بن المسيَّب) كرامة لرسول الله. وقد علم أهل الأرض أنك حججت نيفًا وثلاثين حَجة، وما فاتتك التكبيرة الأولى في المسجد منذ أربعين سنة، وما قمتَ إلا في موضعك من الصف الأول، فلم تنظر قط إلى قفا رجل في الصلاة؛ ولا وجد الشيطان ما يعرض لك من قِبلِهِ في صلاتك ولا قفا رجل؛ فالله الله يا أبا محمد، إني ــ والله ــ ما أغشُّك في النصيحة؛ ولا أخدعك عن الرأي، ولا أنظر لك إلا خيرَ ما أنظر لنفسي؛ وإنَّ عبدَ الملك بن مروان مَنْ علمتَ؛ رجل قد عمَّ الناسَ ترغيبه وترهيبه، فهو آخذك على ما تكره إن لم تأخذه أنت على ما يحب؛ وإنه ــ والله ــ يا أبا محمد، ما طلب إليك أمير المؤمنين إلا وأنت عنده الأعلى، ولا بعثني إليك إلا وكأنه يسعى بين يديك، رعاية لمنزلتك عنده، وإكبارًا لحقك عليه؛ وما أرسلني أخطُبُ إليك ابنتك لوليِّ عهده إلا وهو يبتذل نفسه ابتذالاً ليصل بك رَحِمَه،ويُوَثِّقَ آصِرتَه؛ وإن يكن الله قد أغناك أن تنتفع به وبمُلكِهِ ورعًا وزهدًا، فما أحوج أهل مدينة رسول الله أن ينتفعوا بك عنده، وأن يكونوا أصهار (الوليد) فيستدفعوا شرًا ما به عنهم غِنًى، ويجتلبوا خيرًا ما بهم غِنًى عنه، ولست تدري ما يكون من مصادر الأمور ومواردها. وإنك ــ والله ــ إن لججتَ في عنادك وأصررت أن تردني إليه خائبًا، لَتَهيجَنَّ قَرَمَ سيوف الشام إلى هذه اللحوم ولحمُكَ يومئذ من أطيبها، ولأمير المؤمنين تارتان: لينٌ وشدة؛ وأنا إليك رسول الأولى، فلا تجعلني رسول الثانية...
* * *
وكان أبو محمد يسمع هذا الكلام وكأن الكلام لا يَخْلُصُ إلى نفسه إلا بعد أن تتساقط معانيه في الأرض، هيبةً وفَرَقًا من إقدامها عليه؛ وقد لان رسول عبد الملك في دهائه حتى ظنَّ عند نفسهِ أنه ساغ من الرجل مساغ الماء العذب في الحلق الظامىء، واشتد في وعيده حتى ما يشك أنه قد سقاه ماء حميمًا فقطَّع أمعاءه؛ والرجل في كل ذلك من فوقه كالسماء فوق الأرض، لو تحول الناسُ جميعًا كنَّاسين يثيرون من غبار هذه على تلك لما كان مرجع الغبار إلا عليهم، وبقيت السماء ضاحكة صافية تتلألأ.
وقلَّب الرسول نظرة في وجه الشيخ، فإذا هو ليس فيه معنى رغبةٍ ولا رهبة، كأنْ لم يجعلْ له الأرض ذهبًا تحت قدميه في حالة، ولم يملأ الجوَّ سيوفًا على رأسه في الحالة الأخرى؛ وأيقن أنه من الشيخ العظيم كالصبيّ الغِرِّ قد رأى الطائر في أعلى الشجرة فطمِع فيه، فجاء من تحتِها يناديه: أنِ انزل إليّ حتى آخذَك وألعبَ بك..
وبعد قليل تكلم أبو محمد فقال:
يا هذا، أمّا أنا فقد سمعتُ، وأمّا أنت فقد رأيتَ، وقد رُوينا أن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فانظر ما جئتني أنت به، وقِسهُ إلى هذه الدنيا كلَها، فكم ــ رحمك الله ــ تكونُ قد قَسَمْتَ لي من جناح البعوضة؟ ولقد دُعيتُ من قبل إلى نيفٍ وثلاثين ألفًا لآخذها، فقلتُ: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم، وهاأنذا اليوم أُدعى إلى أضعافها وإلى المزيد معها؛ أفأقبضُ يدي عن جمرة ثم أمدّها لأملأها جمرًا؟ لا ــ والله ــ ما رغب عبد الملك لابنه في ابنتي، ولكنه رجلٌ من سياسته إلصاقُ الحاجة بالناس ليجعلها مقادة لهم فيصرفهم بها؛ وقد أعجَزَهُ أن أبايعه، لأنَّ رسول الله نهى عن بيعتين، وما عبد الملك عندنا إلا باطلٌ كابن الزبير، ولا ابن الزبير إلا باطلٌ كعبد الملك، فانظر فإنك ما جئت لابنتي وابنه، ولكنْ جئتَ تخطبني أنا لبيعته...
قال الرسول: أيها الشيخ، دع عنك البيعة وحديثها، ولكن مَنْ عسى تجد لكريمتك خيرًا من هذا الذي ساقه الله إليك؟ إنك لراعٍ وإنها لرعية وستُسألُ عنها، وما كان الظن بك أن تسىء رِعْيتَها وتبخسَ حقها، وأن تَعْضِلَها وقد خطبها فارسُ بني مروان، وإن لم يكن فارسهم فهو وليُّ عهد المسلمين، وإن لم يكن هذا ولا ذاك فهو الوليد بن أمير المؤمنين؛ وأدنى الثلاثِ أرفعُ الشرفِ فكيف بهنَّ جميعًا، وهنَّ جميعًا في الوليد؟
قال الشيخ: إما إني مسئول عن ابنتي، فما رغبتُ عن صاحبك إلا لأني مسئول عن ابنتي. وقد علمت أنت أن الله يسألني عنها في يوم لعل أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين وألفافَهما لا يكونون فيه إلا وراء عبيدِها وأوباشها ودُعَّارها وفُجَّارها. يخرجون من حساب الفَجَرَة إلى حساب القَتَلَة، ومن حساب هؤلاء إلى الحساب على السرقة والغضب، إلى حساب أهل البغي، إلى حساب التفريط في حقوق المسلمين. ويخفُّ يومئذٍ عبيدُها وأوباشُها ودعّارُها وفجارُها في زحام الحشر، ويمشي أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين ومن اتصل بهما، وعليهم أمثالُ الجبال من أثقال الذنوب وحقوق العباد.
فهذا ما نظرْتُ في حسنِ الرعاية لابنتي، لو لم أضِنَّ بها على أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين لأوْبَقْتُ. لا ــ والله ــ ما بيني وبينكم عمل، وقد فرغْتُ مما على الأرض فلا يمر السيفُ مني في لحمٍ حيّ.
للقصة بقية...
من وحي القلم - للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي
من وحي القلم - قصة زواج وفلسفة المهر 1
- التفاصيل