إعداد/ أيمن محمود
لما كان غداة غدٍ جلس الشيخ في حَلْقتِهِ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديث والتأويل، فسأل رجل من عُرْضِ المجلس، فقال: يا أبا محمد، إنَّ رجلاً يلاحيني (يجادلني) صَداقِ بنته ويُكلِّفُني ما لا أطيق. فما أكثرُ ما بَلَغَ إليه صَداقُ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَداقُ بناته؟


قال الشيخ: رَوَينا أنَّ عمر رضي الله عنه كان يَنْهى عن المغالاة في الصَداق ويقول: "ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زوَّجَ بناتِه بأكثرَ من أربعمائة درهم، ولو كانت المغالاة بمهور النساء مَكْرُمَةً لَسَبَقَ إليها رسول الله".

وروينا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير النساء أحسنُهنّ وجوهًا وأرخصُهنّ مهورًا".

فصاح السائل: يرحمك الله يا أبا محمد، كيف يأتي أن تكون المرأة الحسناء رخيصة المهر، وحُسنُها هو يُغْلِيها على الناس؛ تكثُر رغبتهم فيها فيتنافسون عليها؟

قال الشيخ: انظر كيف قلت. أهم يساومون في بهيمة لا تعقل، وليس لها من أمرها شىء إلا انها بضاعة من مطامع صاحبها يُغْلِيها على مطامع الناس؟ إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير النساء من كانت على جمال وجهها، في أخلاق كجمال وجهها، وكان عقلها جمالاً ثالثًا؛ فهذه إن أصابت الرجل الكُفْء، يسَّرت عليه، ثم يسرت، ثم يسرت؛ إذ تعتبر نفسها إنسانًا يريد إنسانًا، لا متاعًا يطلب شاريًا، وهذه لا يكون رُخْصُ القيمة في مهرها، إلا دليلاً على ارتفاع القيمة في عقلها ودينها؛ أما الحمقاء فجمالها يأبى إلا مضاعفة الثمن لحسنها، أى لحمقها؟ وهي بهذا المعنى من شِرار النساء، وليست من خيارهنَّ.

ولقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث بيت، وكان الأثاث: رحى يد، ووسادة من أُدَم حشوها ليف. وأوْلَمَ على بعض نسائه بمُدَّين من شعير، وعلى أخرى بمُدَّين من تمر ومُدَّين من سَويق (دقيق القمح أو الشعير). وما كان به صلى الله عليه وسلم الفقر، ولكنه يُشَرِّع بسنته ليعلم الناس من عمله أن المرأة للرجل نفسٌ لنفس، لا متاع لشاريه؛ والمتاع يقوم بما بُذِلَ فيه إن غاليًا أو رخيصًا، ولكن الرجل يُقَوَّمُ عند المرأة بما يكون منه؛ فمهرها الصحيح ليس هذا الذي تأخذه قبل أن تُحْمَلَ إلى داره، ولكنه الذي تجده منه بعد أن تُحْمَلَ إلى داره؛ مهرها معاملتها، تأخذ منه يومًا فيومًا، فلا تزال بذلك عروسًا على نفْسِ رجُلِها ما دامت في معاشرته. أما ذلك الصَّداق من الذهب والفضة، فهو صَداق العروس الدخلةِ على الجسم لا على النفس؛ أفلا تراه كالجسم يهلك ويبلى، أفلا ترى هذه الغالية ــ إن لم تجد النفس في رجُلِها ــ قد تكون عروس اليوم ومطلَّقة الغد؟!

وما الصَّدَاق في قليله وكثيره، إلا كالإيماء إلى الرجولة وقدرتها، فهو إيماء، ولكن إلى الرجولة وقدرتها، فهو إيماء، ولكنَّ الرجلَ قبْلُ. إن كل امرىء لا يستطيع أن يحمل سيفًا، والسيف إيماء إلى القوة، غيرَ أنه ليس كل ذوي السيوف سواء، وقد يحمل الجبان في كل يد سيفًا، ويملك في داره مائة سيف؛ فهو إيماء، ولكنَّ البطلَ قبْلُ، ولكنَّ البطلُ قبْلُ.

مائة سيف يمهر بها الجبان قوته الخائبة، لا تغني قوته شيئًا، ولكنها كالتدليس على من كان جبانًا مثله. ويوشك أن يكون المهر الغالي كالتدليس على الناس وعلى المرأة، كي لا تعلم ولا يعلم الناس أنه ثمن خيبتها؛ فلو عقلت المرأة لباهت النساء بيسر مهرها، فإنها بذلك تكون قد تركت عقلها يعمل عمله، وكفت حماقتها أن تفسد عليه.

فصاح رجل في المجلس أيها الشيخ، أفي هذا من دليل أو اثر؟

قال الشيخ: نعم؛ أمَّا من كتاب الله فقد قال الله تعالى : }خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا{. فهي زوجُهُ حين تجده هو لا حين تجد ماله؛ وهي زوجُهُ حين تُتَمِّمُهُ لا حين تُنقصُه، وحين تلائمُهُ لا حين تختلف عنه؛ فمصلحة المرأة زوجةً ما يجعلها من زوجها، فيكونان معًا كالنفس الواحدة، على ما ترى للعضو من جسمه؛ يريد من جسمِهِ الحياة لا غيرها.

وأما من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رُوينا: "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".

فقد اشترط الدين، على أن يكون مَرضيًّا لا أيَّ الدين كان؛ ثم اشترط الأمانة، وهي مظهر الدين كلِّه بجميع حسناته: وأيسرها أن يكون الرجل للمرأة أمينًا، وعلى حقوقها أمينًا، وفي معاملتها أمينًا؛ فلا يبخسُها ولا يُعنِتُها، ولا يسىء إليها؛ لأن كل ذلك ثلمٌ (نقص) في أمانته؛ فإن ردَّتِ المرأة مَنْ هذه حالُه وصِفتُه من أجل المهر ــ تقدَّمَ إليها بالمهر مَنْ ليس هذه حاله وصفته، فوقعت الفتنة، وفسدتِ المرأة بالرجل، وفسد هو بها، وفسد النسل بهما جميعًا، وأُهْمِلَ مَنْ لا يملك، وتعنست مَنْ لا تجد، ويرجع المهر الذي هو سبب الزواج سببًا في منعه، ويتقارب النساء والرجال على رغم المهر والدين والأمانة؛ فيقع معنى الزواج، ويبقى المعطَّلُ منه اللفظَ والشرع.

هل علمَتِ المرأةُ أنها لا تدخل بيتَ رجلِها إلا لتجاهد فيه جهادها، وتبلو فيه بلأها؟ وهل يقوم مال الدنيا بحقها فيما تعملُ وما تجاهد، وهي أمُّ الحياة ومُنْشِئَتُها وحافظتها؟ فأين يكون موضع المال ومكان التفرقة في كثيره وقليله، والمال كلُّه دون حقها؟

ولن يتفاوت الناس بالمال تختلف درجاتهم به، وتكون مراتبهم على مقداره، تكثر به مرة وتقل به مرة ــ إلا إذا فسد الزمان، وبطلت قضية العقل، وتعطل موجبُ الشرع، وأصبحت السجايا (الأخلاق) تتحول، يملكها مَن يملك المال، ويخسرها مَن يخسره؛ فيكون الدين على النفوس كالدَّخيل المزاحم لموضعه، والمتدلي في غير حقه؛ وبهذا يرجع باطل الغَنيّ دينًا يتعامل الناسُ به، ودين الفقير بهرجًا لا يروجُ(لا يلقى قبولا) عند أحد؛ وليس هذا من ديننا، دين النفس والخُلُق، وإنَّ ألف بعير يقنوها (يمتلكها) الرجل خالصةً عليه، ثابتة له، لا تزيد في منزلة دينه قدر نملة ولا ما دونها. والحجران: الذهب والفضة ــ قد يكون شعاعهما في هذه الدنيا أضوأ من شمسها وقمرها، ولكنهما في نور النفس المؤمنة كحصاتين يأخذهما من تحت قدميه، ويذهب يزعم لك أنهما في قدر الشمس والقمر.

وهلاك الناس إنما يُقْضَى بمحاولتهم أن يكونوا أناسًا بعيوبهم وذنوبهم؛ فهذا هو الإنسان المدْبِرُ عن الله وعن نفسه وعن جنسه؛ لا يكون أبوه أبًا في عطفه، ولا أمُّه أمَّا في محبتها، ولا ابنه ابنًا في بِرِّه، ولا زوجته زوجة في وفائها؛ وإنما يكونون له مهالك، كما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده؛ يعيّرونه بالفقر، ويكلفونه ما لا يطيق؛ فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينُه فيَهلِك".

وصاح المؤذن، فقطع الشيخ مجلسه وقام إلى الصلاة، ثم خرج إلى داره، قتلقته ابنته وعلى وجهها مثل نوره، قالت: يا أبت كنتُ أتلو الساعة قوله تعالى: }رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً{. فما حسنة الدنيا؟ قال: يا بنية، هي التي تصلُحُ أن تُذكَر مع حسنة الآخرة، وما أراها للرجل إلا الزوجة الصالحة، ولا للمرأة...

للقصة بقية....

 

 

من وحي القلم - للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي

 

JoomShaper