نبيل شبيب

"لن يعيد حكم المحكمة لنا زوجةَ السيد عكاظ المحبوبة وأم الطفل الصغير مصطفى، ولكنني أشعر بالسرور أن مرتكب الجريمة وجد عقابه".. بهذه الكلمات عقب هايكو ليش، محامي عائلة مروة الشربيني رحمها الله وغفر لها، على حكم السجن المؤبد الصادر يوم 11/11/2009م على القاتل آكسل فينس، معتبرا يوم صدور الحكم "يوم العدالة". كما أعرب رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، آكسل أيوب كولر، عن ارتياحه لصدور الحكم بأقصى درجات العقوبة التي يمسح بها الدستور الألماني، بقوله "نحن فخورون بنظامنا القانوني واستقلالية قضائنا". ووجهت رئيسة قضاة المحكمة بيرجيت فيجاند كلامها إلى علوي عكاظ، الذي فقد زوجه، لتقول: "لقد تصرفتَ وفق تقاليد زوجك وسلوكها، بكل أدب وموضوعية وواقعية، وهذا يستدعي أن نعرب عن تقديرنا العميق تجاهك".

 

عقوبة لا مهرب منها

للحدث أبعاده السياسية والاجتماعية وغيرها، ولا يستهان بها، ولا ينبغي الامتناع عن الخوض فيها، إنما من المؤكد أن المحكمة المختصة في مدينة درسدن شرق ألمانيا، قد تصرفت بأعلى درجات المهنية القضائية، وفق ما يسري في البلاد من أحكام واعتبارات دستورية وقانونية، وأن الحكم صدر دون التأثر بعوامل أخرى في قضية ذات أبعاد سياسية واجتماعية واسعة النطاق. ولهذا التأكيد أهمية كبيرة، فالقول إن "المحكمة تأثرت" بعوامل غير قانونية، ولا سيما بالأصداء التي تركتها الجريمة في مصر ومجموع العالمين العربي والإسلامي، وعلى صعيد علاقة ألمانيا بالمسلمين فيها وفي العالم.. مثل هذا القول يعطي محامي الجاني الذي ينوي الاستئناف، ذريعة مزيفة في محاولة تخفيف الحكم لاحقا.
وفي حيثيات الحكم أشارت رئيسة قضاة المحكمة فيجاند إلى ذلك بصورة مباشرة وغير مباشرة، من خلال قولها: "لم نصدر الحكم من أجل المسلمين أو أي مجموعة أخرى، بل أصدرناه وفق القانون الألماني، كما نصنع مع أي متهم آخر. لم نصدره من أجل المسلمين، ولا من أجل نقابة المحامين المصرية".. مشيرة بذلك إلى النداء الذي وجهه رئيس النقابة المحامي حمدي خليفة، مطالبا بأقصى درجات العقوبة "باسم نصف مليون من المحامين العرب".
ويشير إلى ذلك المحرر المتخصص في شؤون العرب والمسليمن في إذاعة دويتشه فيلي، في تعليق على الحكم جاء فيه: "إلا أن مهمة المحكمة المختصة لم تكمن في تقييم ردود الفعل المختلفة ولا في تقييم مدى انتشار ظاهرة معاداة الإسلام في المجتمع الألماني، وإنما كان عليها أن تصدر حكما بشأن جريمة قتل محددة والدوافع التي أدت إليها. وقد صدر هذا الحكم، وهو واضح جدا، فقد حكم على القاتل بأقصى عقوبة في ألمانيا، وهي السجن مدى الحياة، وليس من المحتمل أن يخرج من سجنه في وقت قريب".
وفي العبارة الأخيرة إشارة مهمة أيضا على ضوء ما قال به شقيق الضحية طارق الشربيني بعد صدور الحكم، من أنه حكمٌ يسمح للجاني بطلب الإفراج عنه بعد 15 عاما، فالواقع أن هذا الطلب -إذا كان مسموحا به شكليا- فالاستجابة له بعيدة الاحتمال للغاية على ضوء حيثيات الحكم، ما لم تجد تعديلا في محكمة استئناف لاحقا، وهذا مستبعد أيضا. فالحيثيات تؤكد بما يقطع الشك باليقين، أن الجريمة وقعت عن سابق إصرار، وتخطيط، وبصورة وحشية، فهي مصنفة بذلك على أنها "جريمة قتل من العيار الثقيل"، أي التي لا تسمح النصوص القانونية حولها بالأخذ بنظام الإفراج عن الجاني بعد 15 سنة، وإن كان سلوكه مقبولا أثناء قضاء عقوبة السجن.
وتشرح حيثيات الحكم مكامن "ثقل الجريمة" بوضوح، فتقول إن المحكمة لم تشهد إلا نادرا حالة ينطبق عليها وصف "الجريمة المدبّرة بدناءة" كهذه الجريمة، إذ كانت الضحية في وضع يجعلها لا تتوقع هجوما عليها وعاجزة تماما عن الدفاع عن نفسها، عندما فاجأها الجاني بالاندفاع نحوها يوم الأول من تموز/ يوليو، ولم يكن باستطاعتها توقع ذلك "وإلا لما اصطحبت ابنها لقاعة المحكمة". أما الدوافع الدنيئة فقد ثبتت للمحكمة من خلال كراهية الأجانب التي صبغت شخصية الجاني وعبّر عنها باستمرار. ولم يتصرف الجاني كرد فعل ما، بل كان "هادئا تماما لا يثير ضجيجا" واستخرج سكينه بنصلها الحاد من حقيبته بعيدا عن الأنظار، وانتظر اللحظة المناسبة لينقض على ضحيته بغته، أي عندما تكون في وضع لا يمكّنها من تجنب هجومه والإفلات منه.
كما اعتبرت المحكمة إصابة زوج الفقيدة بسكين الجاني محاولة لقتله عندما وقف في طريقه، وأشارت إلى أن التحقيق يجري بشأن الشرطي الذي حضر من قاعة مجاورة وأطلق النار فأصاب الزوج بطلقة نارية.
وإلى هذا يشير طارق الشربيني بقوله "إننا نعوّل كثيراً على الدعوى المرفوعة من هيئة الدفاع على المحكمة وعلى القاضي ميجاشيفسكى، الذي شهد واقعة القتل وعلى هيئة شرطة دريسدن".
والواقع أنه لا ينبغي التعويل كثيرا على ذلك، فمجرى الحدث المأساوي، يشير إلى أن القاضي ضغط على زر استدعاء النجدة على الفور، وأن الشرطي حضر أثناء وقوع الجريمة، ومن العسير إثبات "التصرف المتعمد" عليه بشأن غصابة زوج الضحية، أو إثبات "الإهمال" على القاضي، الذي يعلّل عدم التفتيش المسبق للمتهم في المحاكمة السابقة (وكانت محاكمة استئناف على الغرامة المقررة بسبب الإهانات السابقة بحق الضحية) بأن حجم الغرامة ومجرى المحاكمة الأولى لم يكن فيهما ما يستدعي الشك في احتمال استخدام العنف من جانب المتهم.
أما الجانب النفساني، والحديث عن "انفصام الشخصية" فقد كان واضحا أنه مجرد محاولة غير مجدية للوصول إلى تخفيف الحكم على الجانب، وعبرت عن ذلك المحكمة، وأخذت بما قال به المدعي العام فرانك هاينريش، الذي أشار أيضا إلى أن محامي الدفاع بذل جهدا كبيرا مع المتخصص النفساني ستيفان سوتارسكي، كي يعدّل التقرير الرسمي الذي قدمه للمحكمة بطلب منها، ولكنه بقي متمسكا بما أكده في التقرير، أنه لم يرصد لدى المتهم أي مؤشر يستدعي التخفيف من حجم مسؤوليته عن الجريمة التي ارتكبها.
جميع ذلك والمزيد عليه مذكور بالتفصيل في حيثيات الحكم، ويعطيه من القوة ما يسوّغ تطبيق العقوبة الأشد في ألمانيا، كما يؤكد صعوبة تغيير فحوى الحكم عبر الاستئناف عليه.

الأصداء على الجانب القانوني أولا

أحمد رفعت، أستاذ القانون الدولي من جامعة بور سعيد يؤكد أنه لو عرفت ألمانيا عقوبة الإعدام، لجرى الأخذ بها، إنما لا شك في أن الحدث المأساوي يحمل أبعادا تتجاوز الجانب القانوني، وهذا ما يوجب التمييز ما بين الأصداء العديدة الصادرة على الحكم وتحديد وزنه كل منها الحقيقي على حسب الجانب الذي يركز عليه، وكان معظم الرسمي من هذه الأصداء مرتبطا بالبعد القانوني في الدرجة الأولى، لا سيما وأن الدولة الألمانية حريصة على استبعاد ما انتشر من "اتهامات" انطلاقا من الأجواء العدائية التي شهدتها السنوات الماضية، فمن هنا يتكرر التأكيد على ألسنة المسؤولين بعد صدور الحكم أن ألمانيا دولة سيادة القانون واستقلال القضاء، وأن الحكم الصادر في درسدن يؤكد ذلك.
وزارة الخارجية الألمانية تنسب إلى وزير الخارجية جوديو فيسترفيلي قوله: "إن هذا الحكم يُظهر أنه لا مكان في ألمانيا للعنف والكراهية العنصرية وعدم التسامح".
والمفوضة الحكومية لشؤون الاندماج ماريا بومر تقول بصورة مشابهة إن الحكم يعطي إشارة واضحة للعالم العربي وللمسلمين في ألمانيا، أنه "لا مكان فيها للخوف المرضي من الإسلام ولعداء الأجانب"، معتبرة الجريمة عملا فرديا.
وحكومة ولاية ساكسونيا -عاصمتها درسدن- ترى أن "دولة القانون الألمانية أعطت بهذا الحكم الجواب على هذا العمل الكريه".
هذه المواقف "الرسمية" -التي تشابه مواقف صدرت عن جهات تنظيمية إسلامية، كالمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا- تنطلق من البعد القانوني والقضائي، ومع كل التأكيد على أعمق درجات التأثر الوجداني إزاء الضحية البريئة مروة، وجنينها، وطفلها الصغير، وزوجها، وسائر ذويها ومحبيها، نحتاج في الوفاء لذكراها وتقدير ما تعنيه قيمة كونها "ضحية"، إلى تأكيد أهمية البعد القانوني والقضائي، فعليه المعوّل الأهم في التعامل مع مختلف القضايا ذات العلاقة بالوجود الإسلامي في ألمانيا، وبما يتعرض له، سلبا وإيجابا، وهنا ينبغي التنويه بعدد من النقاط الأساسية، وفي مقدمتها:
1- انتشر في ألمانيا تدريجيا التقدير الكبير لما يوصف بالشجاعة الأدبية للضحية، عندما لجأت إلى القضاء عقب تعرضها للإهانة قبل عامين، لا سيما وأن ذاك مما لا يصنعه كثير من المسلمين في حالات مشابهة، فإذا كانت مروة الشربيني رحمها الله تعالى، قد دفعت حياتها ثمنا لجرأتها على الاستفادة من المعطيات القانونية والقضائية، فقد أصبحت قضيتها بالفعل تمثل مفصلا بالغ التأثير على صعيد مستقبل الوجود الإسلامي في ألمانيا، والتعامل معه، وهذا بعض ما يمكن رصده من خلال أصداء الحدث بأبعاده السياسية والاجتماعية الأخرى.
2- وفيما سبق إشارة إلى أن كثيرا من المسلمين في ألمانيا وفي الغرب عموما، لا يزالون مترددين عن الاستفادة بالقدر الكافي من المعطيات القانونية والقضائية في مواجهة كثير من مظاهر العداء والعنف والتمييز، وهو ما يشجع بصورة مباشرة وغير مباشرة مصادرَها والمحرضين عليها، على مواصلة ما يصنعون دون "رادع".
3- لقد طرح الحدث من البداية وطرح الحكم الصادر على الجريمة هذه الجوانب القضائية والقانونية على أوسع نطاق، فأصبحت حدث الساعة، ومن المعروف أن مدخل "الفكر القانوني والحقوق والقضاء" هو من المداخل ذات المفعول الكبير على طريقة التفكير السائدة في الغرب، وبالتالي على قابلية تغيير السلوك السلبي الغالب تجاه المسلمين، والمتصاعد في السنوات القليلة الماضية، والذي يعتمد فيما يعتمد على إشاعة الاتهام بضعف التركيز على الحقوق والقانون والقضاء في الإرث المعرفي والسلوكي الإسلامي.

بذور تغيير صنعته مروة الضحية

في الفترة ما بين ارتكاب الجريمة وصدور الحكم بصددها كان باستطاعة المتابع للأجواء والمضامين المرتبطة بأثر الحدث في ألمانيا، أن يرصد تطورات ملحوظة، يمكن الإشارة إلى بعضها بإيجاز:
1- المقارنة بين اقتصار ردود الفعل الإعلامية "الفورية" على الجريمة على عدد محدود من الأخبار المقتضبة، وبين انتشار خبر الحكم خلال دقائق والتعليق عليه خلال ساعات فقط، في العدد الأكبر من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.ز هذا المقارنة تبين ما صنعته مروة الشربيني الضحية، على أرض الواقع، رحمها الله وغفر لها.
2- المحاولات الأولية لاستبعاد الدوافع العنصرية، لاسيما الكراهية للإسلام والمسلمين، عن الجاني، ليس على المستوى الإعلامي فقط، بل في أوساط سياسية أيضا، إضافة إلى تأخر صدور مواقف رسمية، تحوّلت في هذه الأثناء إلى جدل إعلامي حول "هذا الخطأ الجسيم"، وإن بقي يتردد في إطاره بعض التعليلات مع ما يمكن وصفه بأسلوب "الهجوم خير وسائل الدفاع" من خلال محاولة التغطية على القصور الذاتي، بالإشارة المتكررة إلى حجم ردود الفعل الشعبية في مصر خاصة والعالم العربي والإسلامي عموما، والقول إنها "مبالغ فيها".. بمعنى أنها تبالغ في تصوير انتشار "أجواء الكراهية العنصرية" تجاه المسلمين في ألمانيا.
3- كثير من "الأصوات" المعروفة بشدّة تحاملها العدائي تجاه الإسلام والمسلمين، والتي كانت لا تتردّد حتى عن تصوير "حكم قضائي منصف" بأنه "خضوع خطير أمام المدّ الإسلامي في أوروبا" غابت عن الظهور في متابعة حدث مروة، ولا يعني ذلك "تراجعا" من جانبها، إنما يمكن القول إن الحدث نفسه، سدّ عليها منافذ كانت تحاول دوما استغلالها لتعميم مقولاتها العدائية.
4- في قضية العداء للحجاب الإسلامي على وجه التخصيص، يمكن القول إن الحدث المأساوي كان أشبه بهزة يمكن أن تترك أثرها تدريجيا، شريطة أن يحسن المسلمون في الغرب التعامل معها، فنموذج "مروة المحجبة"، المسلمة المتعلمة العاملة الطموحة وكيف عاشت في نطاق أسرة صغيرة مستقرة، بات مطروحا بقوة، مقابل الصور السلبية العديدة التي سبق نشرها بكل وسيلة ممكنة، لتصوير الحجاب سجنا دون حياة العلم والعمل والعطاء، وتصوير المرأة المحجبة رقيقا دون حقوق أو كرامة أو حرية، وتصوير مجتمعات "الحجاب" مجتمعات "ذكورية" متخلفة بسبب أسلوب التعامل مع المرأة، ومن ثم اختزال الإسلام نفسه في مثل هذه الصور المفتراة، وبالتالي التعامل من موقع "الاستعلاء" مع المسلمين في الغرب، فالمطلوب أولا "ترويضهم" على الحداثة الغربية.. ليمكن التعامل معهم كجزء من المجتمعات الغربية.
ويمكن ذكر المزيد من بذور التغيير التي زرعها حدث مروة الشربيني، رحمها الله، بسلوكها أثناء إقامتها القصيرة في ألمانيا، ثم بتعاملها مع التطاول عليها وعلى مظهرها الإسلامي، ثم بسقوطها ضحية جريمة عنصرية وحشية، يرجى -كما يؤخذ من الأحاديث النبوية الصحيحة- أن تكون قد أوصلتها إلى مقام الشهداء في عليين.

أصداء الحكم إعلاميا

رغم أنه لم يمر (ساعة كتابة هذه السطور) سوى 24 ساعة على صدور الحكم في درسدن، إلا أنه لا يمكن حصر ما صدر في الإعلام الألماني، مما يمثل قفزة نوعية بالمقارنة مع أحداث سابقة، حتى تلك التي بلغت مستوى جرائم عنصرية خلال التسعينات من القرن الميلادي العشرين.
ومعظم ما نُشر ذو وجهة إيجابية، وقبل إيراد بعض الأمثلة على ذلك ينبغي التنويه بوجود أمثلة "سلبية" أيضا، وإن فقدت حدّتها التقليدية المعروفة من قبل، ومن ذلك السعي لموازنة قصور سياسي قائم في المانيا، بقصور من جانب المسلمين، فهذا ما يعنيه مثلا قول راينر زوليش المذكور آنفا: "وللأسف، فإن عدداً قليلا فقط من المسلمين المعتدلين، رفعوا أصواتهم لتأكيد عدم وجود تمييز ضدّهم من قبل الدولة الألمانية ولنفي الادّعاء بأنهم عرضة لأعمال عنف متعمدة. وللأسف أيضاً، فقد اعترف عدد قليل فقط من ممثلي المجتمع الألماني بعمق القضية الأساسية. فهناك استطلاعات رأي تقول إن أوساطا معينة من المجتمع الألماني ليس لديها ثقة في الإسلام أو هي تخاف أو تنفر منه. وعلى المجتمع الألماني إجراء حوار بناء حول هذه المسألة يحظى بثقة المسلمين أيضا".
مثل هذا المطلب تجاه "المسلمين المعتدلين" في ظل ما أثارته جريمة القتل من أجواء، مطلب لا يوجد ما يسوّغه، كما أنه لا توجد بين يدي من يراهم زوليش "مسلمين معتدلين" أجهزة ووسائل معبرة ومؤثرة، كالتي توجد بين يدي الدولة وفئات اجتماعية فاعلة في ألمانيا، ولم تلجأ الجهات الرسمية والإعلامية إلى محاولة الحصول على مواقف "مسلمين معتدلين"، هذا مع الإشارة إلى اتهام مبطن في كلمات "زوليش" تجاه ممثلي المنظمات الإسلامية بأنهم لا يمثلون "المسلمين المعتدلين".. هذا رغم التوازن ف مواقفهم، وهم يطالبون بالتعامل مع القضية بعمق، باعتبارها "قضية أساسية"، كما يصفها زوليش نفسه!..
إلا أن المراوغة في التعامل مع قضايا من قبيل هذا الحدث الماساوي، تراجعت لصالح مواقف أخرى، من الأمثلة عليها دون تفصيل:
1- صحيفة "دير فيستن" تعتبر الحكم القضائي "إشارة إنذار" في الوقت المناسب، ليس تجاه العالم العربي والمسلمين في الغرب فقط حول نزاهة القضاء الألماني (وفي ذلك نقد غير مباشر لما يسعى السياسيون إلى تثبيته ردا على موجة السخط الشعبي الكبيرة في البلدان العربية والإسلامية) بل هي إشارة إنذار محلية أيضا، وتتابع الصحيفة فتقول: "هي إشارة إنذار في الوقت المناسب، في وقت كثر فيه الهذر المعادي لنساء محجبات مسلمات. إن الخوف من الإسلام وصل إلى قلب المجتمع، وأصبح خطرا على نموذج التوازن بين البشر، ولكن هذا النموذج هو الشرط الأساسي من أجل حياة ديمقراطية بالفعل، تتغذى أيضا من روح التسامح تجاه ما يبدو غريبا".
2- جريدة "تاجس شبيجل" تحذر من اعتبار ما صنع قاتل مروة المحجبة أمرا فرديا (وفي هذا موقف مضاد مباشرة لما يحاول صنعه بعض السياسيين) إذ تقول "إن الدعائم الأساسية في البنية الهيكلية العقائدية عند "آكسل" (القاتل) مثبتة في رؤوس كثير من المواطنين المتعلمين، وإن قوانين الحجاب على مستوى الولايات جعلت من تثبيت ذلك الفكر أمرا ملزما قانونيا".
3- تعليق آخر في "تاجس شبيجل" بقلم يوست موللر-نويهوف، يفصل تفصيلا أوفى حول البعد السياسي للجريمة والحكم القضائي فيقول: "جريمة بدوافع دنيئة من الكراهية الغضب، لم تصدر عن قطاع سياسي، فليس آلكس ذروة جبل الجليد لِما تصنع الأجواء المعادية للإسلام، كذلك لا يمثل قاتل المخرج الناقد للإسلام تيو فان جوج (مخرج هولندي قتله شاب مغربي قبل سنوات) رسولا معبرا عن الإسلام موضع الانتقاد، فكلاهما على طريق منحرفة، دونما هدف، إنما يجري تثمين دوافعهما المظلمة عن طريق ربطها بالسياسة والدين. رغم ذلك كانت المحاكمة حدثا سياسيا، فبين المسلمين الألمان يوجد مثلما يوجد بين غير المسلمين الألمان، من يرفض الدراسة، ومن يُخفق في التربية، ومن لا يمارس الانتخاب، ومن يتطرف، ومن يهذر، ومن لا يسيطر على لسانه. جميع ذلك لا علاقة له بالإسلام، إنما رغم ذلك أصبح على "المسلمين" أن يتحملوا هذه الاتهامات، عندما يجري الحديث سياسيا وإعلاميا عن هذه المواضيع، ناهيك عن الاتهام الدائم بالتآمر على صعيد الخطر الإرهابي ومزاعم صدوره عنهم. إن الناس، المؤمنين تحديدا، يعانون من توجيه أصابع الاتهام والأحكام المسبقة إليهم على هذا النحو، فهل تُحقق المحاكمة في قضية مروة شيئا من الفائدة وتجعل بعضنا يشير إلى ذلك.. هل نستطيع ذلك حقا؟".
ولا ينفسح المجال لمزيد من الحديث عما تركه الحدث من آثار تتجاوز الساحة السياسية والإعلامية أيضا، فليس بسيطا على المستوى الاجتماعي الشعبي بمقاييسه الألمانية مثلا، أن يكون يوم إصدار الحكم في قضية مروة الشربيني، سببا في الإعلان بمدينة درسدن، عن إلغاء الاحتفالات التقليدية السنوية التي ينتظرها أهل المنطقة عاما بعد عام لبدء موسم "الكرنفال"، وهو ما لم يحدث من قبل إلا في حالات نادرة.
لا ريب أنه كان يوجد قبل هذه الجريمة بعض الأصوات من قبيل الأمثلة الإيجابية المذكورة في الأوساط الفكرية والسياسية والإعلامية والثقافية والاجتماعية، إنما لا ريب أيضا في أن قضية مروة رحمها الله أعطت لهذه الأصوات دفعة قوية، لن تكون دون أثر، فإذا بلغ ذلك مداه على النحو المرجو، وساهم المسلمون في ألمانيا في ذلك بالصورة المناسبة، آنذاك فقط.. تكون كلمات إحدى صديقات مروة "ندا"، وزميلتها في نادٍ لكرة اليد في الاسكندرية، محقة وهي تقول لمراسل جريدة ألمانية: "لقد حققت ألمانيا توقعاتنا، وحصلت مروة على حقها".

 

مداد القلم

JoomShaper