طريف عيد السليطي
الحب هو مسألة جوهرية في حياة أي إنسان، ومفهوم الحب يلعب دوراً أساسياً وثورياً في بلورة فهمنا لما حولنا , فنحن نقرّب الأشياء أو نبعدها بحسب حبنا لنا أو كراهيتنا . الحب , ليس فقط شعوراً وجدانياً , ولا نزوة غريزية طائشة , ولا ميل أعمى لا يعرف التعقل , الحب هو مفهوم أوسع بكثير من كل هذه الاتجاهات والنزعات : إنه كلمة رئيسية في حياة الجميع , إن لم يكن بدوره هو الكلمة الأولى والأهم . إننا نحب الشمس لأنها تضيء لنا كوكبنا الصغير , نحب المرأة لأنها تبعث بداخلنا الحنان الذي نفتقده في خضم الحياة الموحشة , نحب الموسيقى لكونها السلاح الوحيد الذي نحارب به ضجيج العالم ونشازه , نحب الأكل لأنه يبعد عنا الصداع والمرض وغائلة الجوع , نحب الإنسان لأنه العاقل الأكبر : وهو الذي يصرع جميع الكائنات ويتسيدها بجدارة وعن استحقاق .
ولكن الحب نفسه يجب أن يبقى سامياً , وسموّه يتأتى عبر اختيار المواضيع الجديرة بمحبتها , فمن يحب الجريمة – مثلاً – لا يمكن له أن يكون شخصاً فاضلاً أو ذا خلق كريم , ومن يحب الرذيلة لا نستطيع أن نسبغ عليه صفة الإنسانية , ومن يطمع , ويجشع , ويغمط حقوق الآخرين , ويحب مثل هذه المسالك المشينة , هو إنسان محب أيضاً , لكنه الوجه الآخر من الحب : إنه الوجه الذي يفضي إلى كراهية . أما الحب كما أنظر إليه , فهو السمو بعينه , لأن المحب لا يرجو شيئاً من محبوبه إلا وصاله , هذه هي أقصى غاياته وأهم أمانيه , أن لا ينحرم من هذا الاتصال ما أمكن له ! والحب من هذه الزاوية يتحول إلى زهد وفضيلة : لأنه يجرد الإنسان من الأطماع , ويعوّده على الاكتفاء بحاجاته الروحية الأساسية , فهو يأنس بمجرد لقيا حبيبه , ولا يطمع في قليل أو كثير بعد أن تحقق له الوصل , الذي هو غاية مُناه .
وقد حاولت أن أتحاشى حقيقة غياب هذا التأويل للحب , فكما أرى من حولي , وفي بيئتي الضيقة أو الواسعة , وحتى في كتابات الكثير من المثقفين والأدباء والمفكرين , أجد أن مفهوم الحب قد صار له شأن آخر : فمن خلط واضح بين الحب والشبق الجنسي عند العامة والدهماء , إلى دمج كامل بين الحب والإسفاف العاطفي عند كثير من الشعراء الشعبيين ( وهنا أسميهم بالشعراء تجاوزاً !) أما المفكرون فمعظمهم جرد الحب من سمته العاطفية الأساسية وجعله مرتبطاً بنسق فكري هندسي لا قلب له ولا حس ! وبرأيي فإن الحب – الذي هو نتاج العاطفة - يبدأ عندما يتوقف العقل عن العمل : وهذا لا يعني تناقض العقل مع الحب , ولكنه يعني أن للعقل مساحاته التحليلية والإدراكية والمعرفية , لكنه يفشل فشلاً تاماً في رصد العواطف الداخلية لدى الإنسان , التي تحتاج لما هو أقوى من العقل , وأقصد هنا: العاطفة , بوصفها الملكة الأولى في حياة الإنسان الأخلاقية والاجتماعية وحتى المعرفية أحياناً , فنحن لا نبحث الموضوع في عقولنا إلا حينما نحبه .
والعاطفة هي التي تدفع الرجل للتعلق بالمرأة التي تناسبه , وهي التي تدفع الأم إلى احتضان ابنها الوليد , وهي التي تجعل الأب يحدب على أبنائه ومن هم تحت وصايته . إن الحياة الإنسانية بلا عاطفة , وبلا حب , هي جحيم تستعر نيرانه , فلا نكاد نعثر على شيء جميل أو بهي في حياتنا الإنسانية يضاهي جمال الحب وجلاله . ومخطئ من يظن بأن الإنسان قادر على العيش بلا عاطفة , إنه لا بدّ وأن يعطف ويحب , ولكنه – إن لم يحب الأشياء الفاضلة – فإنه سيتجه حتماً إلى الأشياء المرذولة , وهو بهذا الصنيع يشوّه عاطفته بلا مبرر : لأن الأشياء الجميلة تفرض ذاتها على عاطفة الإنسان وذائقته وحواسه بصورة تلقائية ومباشرة ودونما تعليم منهجي أو خبرة مكتسبة , فكل ما تفعله عقولنا وقتئذ هو أن تصادق على هذه اللذة العاطفية أو تنفيها , لكنها لا تستطيع أن تنكر وجودها وتأثيرها . وبرأيي فإن عاطفة الحب هي أعظم مهذب لسلوك الإنسان , إذ يستحيل أن يجتمع الحب بسموّه وشموخه مع الكراهية بسوئها وانحطاطها في قلب امرئ واحد : مثلما أن العسل الصافي يتكدر عندما نخلطه مع القار والنفط ! ولعل التربويين في بلادنا يلتفتون إلى هذه النقطة المؤثرة في ذات الإنسان ودواخله مثلما انتبه لذلك أبراهام ماسلو الذي جعل من الحنان العاطفي بؤرة ارتكاز يقف عليها تأمين حياة الفرد السليم والصحيح . ولعمري ماذا يبقى للإنسان حينما يفقد داخله ؟ وعاطفته ؟ وحبه ؟ إنه لا يصير إنساناً من بعد : بل يتحول إلى صورة إنسان , إنه شبح ينتظر الروح العاطفية التي تنفخ بداخله حركة الحياة وتبث فيه أشواقها المتوقدة .
جريدة المدينة