د.خالص جلبي

حين سافرت إلى كندا قالت لي: الرجل هنا يحتاج للمحرم أكثر من المرأة سألتها: لم أفهم! قالت: الفتاة هنا لا يُخشى عليها بقدر ما يخشى على الشاب الذي يجب أن يتحصن بالزواج حتى لا ينزلق إلى المحرمات.
لكن عادة المجتمعات الدينية المغلقة، أن تخشى على النساء من الفاحشة أكثر من الرجال؛ فالمرأة تحمل سفاحا أما الرجل فلا!
وحين استعرض الأحاديث الواردة عن اشتراط المحرم للمرأة، أقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مدركاً لمقتضيات بيئة انعدم فيها الأمن واشتدت وطأة قطّاع الطرق، حين نهى عن سفر امرأة مسافة يوم وليلة بدون محرم. ولنتصور ظروف تلك الأيام بدون مطارات غاصة برجال الأمن، أو طرقات معبدة محروسة بدوريات الشرطة.

لقد ورد في الحديث حين سأل الصحابة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم هل يعرضون للعذاب والشدة؛ فقال لهم إنه كان فيمن كان قبلهم يؤخذ الرجل فيُمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه... ليختتم عليه الصلاة والسلام قائلا إنهم قوم يستعجلون، ولئن طالت بهم الأيام فسوف يرون عجبا من تغير الأحوال وتطور الأمور، فلسوف تسير الظعينة (راكبة هودج الجمل) من صنعاء إلى حضرموت لا تخش إلا الله والذئب على غنمها، ولكنكم قوم تستعجلون.

وهذا يفتح السؤال على قضية مهمة حول علاقة النصوص بالواقع، والتحريم مع الضرر، والتحليل مع الفائدة. فالأشياء تحرم ليس لذاتها بل لأثرها الضار، وقد وضع القرآن نوعا من الحركة بين مصالح متضاربة، بسبب تعقيد مظاهر الحياة، ومن هذا الحقل نبت علم كامل هو أصول الفقه، وهو علم عقلاني يرى أن دفع المضار أولى من جلب المنافع، وأن اجتماع ضررين لابد من أحدهما يجعلنا نتحمل الأخف والأصغر هربا من الأكبر والأشد. وأن تضارب المحظورات مع الضرورات يجعلنا نتغاضى عن المحظورات مقابل النجاة من الضرورات. ومنه فقد أباح القرآن أكل لحم الخنزير إذا كان فيه إنقاذ للحياة، فهذه الأخيرة لها الأولية على كل شيء. وكذلك استخدام الكحول إذا تمت الحاجة لها مع أنها نجس. وقد خرج ابن رشد بالقاعدة الفقهية الرائعة في حركية النص مع الحكمة؛ فسمى كتابه "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال"، ليقول إن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما.

وهذا يوصلنا للقول إن المسافة والجغرافيا ليستا السبب في فرض المحرم، فالمرأة اليوم تسافر من الشرق الأوسط إلى كندا بأمان الله، لكنها في ضيعة ببلد إسلامي قد تتعرض للاعتداء، ودرجة الأمن في مونتريال بكندا، تجعل البيوت مفتوحة والحدائق بأسوار بسيطة بهجة للناظرين ومتعة للساكنين، أما في البلاد الإسلامية فالنوافذ ضيقة كأنها للقلاع والبنوك، والأسوار عالية كأنها خنادق حربية، وكل ذلك بسبب مركزية موضوع المرأة والحرص على مصادرتها لتتحول إلى سلعة للرجل.

لقد حاول الفقهاء قديما أن يبنوا بيوتا ففتحوها من المركز للسماء وجعلوا أسوارها الخارجية عالية، أما أبنية اليوم فليست غربية ولا شرقية بل مسخا وتشويها وإعاقة وتعتيما.

إلا أن تصحيح شكل المجتمع يأتي من النظرة الإنسانية للمرأة والطفل، وحين لا ننصت لروح النصوص نكذب على الله، ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعي الإسلام.

 

جريدة الاتحاد

JoomShaper