تلقيت عبر البريد الالكتروني مقطعاً قصيراً من شريط فيديو تم تسجيله نقلاً عن قناة (أنيمال بلانيت) تظهر فيه أنثى نمر مرضعة من نوع (شيتا) المعروفة أنها من أشرس وأسرع كائنات المعمورة، إضافة إلى شهرتها كأكثر الوحوش الضارية حناناً مع صغارها.
يبتدىء الفيلم بأنثى النمر تباغت قردة ضخمة من ظهرها وتنقض على رقبتها وتقتلها. في الحال تتجمع عشرات الضباع حول أنثى النمر وتحيطها على شكل نصف حلقة استعداداً لقنص الطريدة الجاهزة للالتهام. لحماية طعامها تبتدئ أنثى النمر بالهمهمة ومناورة الضباع ثم تتراجع وهي تجرّ القردة وتسحبها إلى جذر ضخم بارز لشجرة خلفها باذلة جهداً كبيراً لثقل وزن الفريسة التي تقلب على ظهرها خلال عملية السحب وتتهدل ذراعاها اللتان كانتا مضمومتين، لتكتشف أنثى النمر ونكتشف معها بدورنا بمفاجأة حلوة محزنة وجود قرد رضيع بحجم الكف معلق بثدي أمه يصدر صوتاً يشبه زقزقة عصفور مسكين، وكأنه يحاكي أمه أن تضمّه وتحميه وتتابع إرضاعه. فتحت أنثى النمر حدقتيّ عينيها واسعاً واقتربت من الرضيع المستسلم ببراءة تشمّه بحذر وتنظر إلى الضباع وكأنها تحاول بسرعة اتخاذ قرار، يخمّن المرء لوهلة أنها قررت التهامه كلقمة صغيرة طرية، إلا أنها عضّته من ظاهر رقبته، وهو المكان الذي اعتادت السنوّريات التقاط أطفالها منه حين تنقلهم من مكان إلى آخر، وحملته إلى جذع مرتفع آمن في الشجرة تاركة للضباع التهام القردة الأم كي لايكتشفوا أمر الصغير الذي أحاطته بكلّ جسدها مشكّلة حوله قنطرة حماية وصارت تلعقه بلسانها تنظّفه برويّة وتهدّىء من روعه بيدها وكأنها تخبره أنها أمه الحنون الجديدة التي ستحميه وترضعه مع صغارها كأخ لهم، حتى ولو كان من جنس القرود... لايهم.
وأنا أفكر بأنثى النمر هذه، كانت تقفز إلى ذاكرتي على الفور الوزيرة الاسرائيلية تسيبي ليفني، وأسترد ملامح وجهها التي تمعنت فيها بروية طوال فترة الحرب على لبنان تموز 2006 ومن ثم الحرب الأخيرة والمستمرة على غزة. ولطالما تساءلت هل هذه المرأة ذات الوجه الشمعي امرأة حقاً؟ تمنيت وأنا أراقبها تتحدث عن إبادة أعدائها أن أرى عيني أنثى ترفان مرة واحدة، أن تشي ملامحها النسائية ببعض الأسف أو العطف، أن تبدي إيماءة ولو عابرة تؤكد أن لديها بعض الأمومة المتخفّية تحت درع "رصاصها المتدفق". أمومة تتحرض عند رؤيتها لطفل يبكي ويستغيث أمام عدسة كاميرا وتتحرك لتنقذه أو على الأقل لتتوقف عن قتله. دوماً تتحدث عن أمن اسرائيل وأطفال اسرائيل... وماذا عن باقي الأطفال من غير أطفال اليهود؟.
الجواب تقدمه أنثى النمر، تلك التي تنتمي إلى عالم الوحوش في أدائها الأمومي الخصب، جواب مؤثر يحيلنا إلى معاني الأمومة التي لاتتأطر بمحدودية العلاقة والعطاء والحب والحنان بين امرأة وأطفالها المولودين منها فقط. هي عمق المعنى الكوني اللامحدود، يختلف عن معنى الإنسانية ولايختص بالإنسانية وحدها. يتغلغل في نبض كل تفاصيل الحياة التي حولنا من أضعفها إلى أقواها.
الأشجار أمهات، تتشقق أغصانها وربما تتألم بصمت لتلد زهراً تغذيه ليتحول إلى ثمرة. في الوقت ذاته تحمل وتحمي أعشاش الطيور فوق أغصانها، لاتطردها ولاتقتلها. وتحت أغصانها لاتتأفف أو تأبه على من هي تظلّل، بشراً كان من التجأ إليها أم حجراً أو حيواناً.الأنهار أمهات أيضاً، لاتفكر في الجريان بنرجسية وأنانية بين ضفتيها فحسب، توزع الماء في كل منحنى تعبر فيه، تسقي تراباً عطشاً تصادفه في طريقها من دون تردد أو حساب.هي الطبيعة بروحها وخلودها وعظمة خلقها، برحمها المدوّر الذي يحتوينا جميعاً، تقدم للإنسان منذ بدء الخليقة معاني سعة فلسفة أمومتها اللامحدودة. لكنه الإنسان وحده الذي مازال إلى اليوم، يدور في فلك شروره ونرجسيته، غافلاً عن روح الطبيعة،غارقاً وحده بأطره المؤطرة.
هل ترغبون بسماع المزيد عن تجليات أمهات بلا حدود؟!
حسناً.. في إحدى الحدائق تبنت دجاجة أربع بطات تخلّت عنها أمها وهي لا تزال داخل البيض الذي وضعته. مسؤولو الحديقة نقلوا البيض لقن دجاجة(بقبقت) لدى شمّها البيض بادىء الأمر، ثم جلست فوق البيض دون تردد واحتضنته إلى أن فقس بعد أسبوع وأصبحت البطات تتهادى خلف الدجاجة الأم وتبحث عن طعام الدجاج الخاص وتتناوله مثل أي صوص آخر.
هي الدجاجة التي تتعامل معها على أنها بلهاء بلا مخ أو مشاعر وتتفنن بطرق طبخها أو تنقرشها نقرشة ياإنسان..
المصدر: مجلة جهينة