ما أجمل الاعتراف عندما تبوح به النفس في لحظة صفاء وشعور بالندم عقِب اندفاع أهوج -غير منضبط بالشرع- في دروب الخطأ، فمثل هذا الاعتراف يغني الآخرين عن استنزاف جهودهم، وتكرار تجارب مريرة لا تعود عليهم ولا على مجتمعاتهم إلا بالخسارة.

والدكتورة سهير القلماوي، صاحبة هذا الاعتراف -لمن لا يعرفها- هي واحدة من أوائل الفتيات اللواتي صُنعن على عين أساطين دعوة تغريب المرأة في البلاد المصرية، وأوائل من زُج بهن في معركة الاختلاط بتلك الديار؛ تلميذة نجيبة لطه حسين! أُريد لها، وللقلة اللواتي معها، أن يكنّ أنموذجًا لمن بعدهن من المسلمات.
ومن هنا تأتي أهمية هذا الاعتراف ، عندما يخرج من امرأة في مثل تجربتها.

تقول الدكتورة في كتابها (مع الكتب) -الذي تستعرض فيه بعض المؤلفات المهمة في زمنها- متحدثة عن كتاب ألفه أحد الغربيين (ص 109-11): "كنت أقرأ في كتاب طريف عن (المرأة اليوم)، فاستوقفني فيه خطاب أرسلته إحدى المتحمّسات للحركة النسوية الحديثة للمؤلف، تبدي فيه وجهة نظر النساء وقد تحررن من كل القيود، تقول المراسلة: "إني مع المتحمسات لجنسي ولكني أتحمس له بأسلوب جديد وأدعو له دعوة جديدة، دعوة لا تريد للمرأة أن تعود أدراجها فتكبت حرياتها وتحرم حقوقها، ولكنها دعوة تريد من المرأة برغم كل الحقوق والمساواة أن تظل امرأة، فلقد اتضح لنا نحن نساء نصف القرن العشرين بعد جهاد نصف قرن أو يزيد أننا لا نريد أن نسلك في الحياة سلوك الرجال؛ ذلك أننا مغتبطات بأنانيتنا، ولكن هذا في حد نفسه يبدو عجيباً بالنسبة للحياة الاجتماعية والاقتصادية في هذه الأيام، ذلك أننا إذا كنا حقاً نساء فإننا إلى حد ما نحب الثناء ونحلم دائماً وأبداً بالبيت الذي نربي فيه أبناءنا؛ بيت نطهي فيه ونغسل ونكوي، وهذا بالنسبة للمرأة الحديثة يبدو شبه مستحيل، لذلك نشعر أننا لسنا أقل تعاسة من جداتنا اللاتي كن سجينات البيوت محرومات من كل حق، يتحرقن إلى أن يكن كالرجال وأن يتشبهن بهم".

تعلق الدكتورة سهير على كلامها قائلة: "لقد حرص المؤلف أن يُردف هذا الخطاب بخطابات أخرى كلها ترمي إلى تصوير هذه النـزعة في المرأة الغربية بعد أن نالت في أكثر البلاد حقوقها، نزعة تريد للمرأة التي أنكرت كثيراً من أنوثتها في سبيل الدفاع عن حقوقها، وقد استبان لها بعد النصر أن هذا الإنكار لا يمكن أن تستمر فيه. استوقفني هذا الخطاب بالذات لأنه يصور لي ظاهرة قوية في مجتمعنا المصري، فلقد ظننا أن تشبث بعض نسائنا بأنوثتهن تأخر وضعف، وأن القوة كل القوة وأن التقدم كل التقدم هو في الثورة على الأوضاع التي تجعل المرأة تؤدي وظيفتها الأولى في الحياة وهي الأمومة".

ثم تقول: "إن المصرية بفطرتها السليمة أدركت أنها لا يمكن أن تكون كالرجل عالمَاً؛ لأن ذلك انحراف في الطبيعة والطبيعة لا تقر الانحرافات وكما أن الرجل لا يمكن أن يكون امرأة، فكذلك المرأة لا يمكن أن تكون رجلاً، فلماذا التشبه ما دام المتشبه به ليس هو المثل الصحيح؟!

إن الله قد خلق المرأة مختلفة عن الرجل، وفي هذا الاختلاف سر تفوق الجنسين بل سر دوامهما، ولو أن الله أراد أن يخلق رجالاً أقوياء ليسمّوا رجالاً، ورجالاً ضعافاً ليسموا نساءً، لما أوجد في جسم المرأة وكيانها وأعصابها وغددها كل هذه الفروق التي يتجلى عنها البحث كل يوم فيظهر لنا العجب الذي لم نكن نتوقعه.

لقد خلق الله المرأة لغاية وخلق الرجل لغاية، وكل منهما يعمل نحو هذه الغاية، فإذا انحرف واحد منهما ليعمل عمل الآخر انحرفت غايات الحياة الاجتماعية وشالت موازينها، ولكن الطبيعة تظل صامدة قوية لا تعترف بهذا الانحراف، كل ما في الأمر هو اختلاف الآراء حول الحد الفاصل بين ميداني العمل، فالرجل يعمل والمرأة يجب أن تعمل في البيت وفي خارج البيت ولكن على أن تعمل المرأة وهي امرأة لا تدعي لنفسها صفات الرجل ولا تتقمص شخصيته فتضيع شخصيتها.

إن مهمة المرأة الأولى هي الأمومة ومهمة الرجل الأولى هي معاونة المرأة على أداء هذه المهمة وتعهد الجيل الجديد بأن يهيأ له وطناً جديداً ومجتمعاً صالحاً، ولو أدركت المرأة هذه الحقيقة وفهمت كنهها ما تنازلت عن أنوثتها لأي سبب ولا في أية معركة".


* تعليق :
1- للدكتورة القلماوي تلميذات في بلادنا، رثينها عندما توفيت، فلعل في اعترافها عبرة لهن.
2- قالت الدكتورة -مجارية أهل عصرها-: "ولكن الطبيعة تظل صامدة قوية". وهذا استعمال لفظي خاطئ؛ فالطبيعة خلقٌ من خلق الله، لايجوز جعلها بمثابة المتصرف في الكون! تأثرًا بملاحدة الفلاسفة الذين اخترعوها فرارًا من الاعتراف بالخالق جل شأنه، فتأثر بهم بعض جهلة المسلمين، ورددوها متغافلين عما تحتها من معانٍ باطلة. (وللزيادة يُنظر معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبوزيد -سلمه الله-، ص 357-359، وفتاوى الشيخ ابن باز -رحمه الله- 3/170 ).

المصدر: موقع طريق الإسلام

JoomShaper