تناولت وسائل الإعلام أخيراً الجدل الدائر في فرنسا بشأن تقدم بعض نواب البرلمان الفرنسي بمشروع قانون ينص على «الإخصاء الكيميائي» لعقاب الرجال مغتصبي الأطفال وأصحاب السوابق في اغتصاب النساء، كما أكدت وزيرة العدل أنه سيتم في نهاية الشهر الحالي إصدار قانون يجبر المغتصبين من أصحاب السوابق على تعاطي أنواع من الأدوية المهدئة بصفة منتظمة لتخفيف حدة تهيجهم الجنسي. وفرنسا ليست الدولة الوحيدة التي تناقش قانونا من هذا النوع، إنما دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا.
ذكرني ذلك بحادثة وقعت في صعيد مصر لفتاة قاصر اختطفها رجل وتركها بين الحياة والموت بعد اغتصابها، ولم تهدأ عائلتها حتى عثروا عليه، وبعد اعترافه بأن الفتاه لم تهرب معه بإرادتها، طلبوا منه أن يعلن ذلك أمام أهل القرية.. وفي اليوم التالي دعوا الناس إلى «عُرس» افتراضي وزينوا ابنتهم، وبعد أن أقر بخطيئته أمام الجميع، نفذوا خطتهم وقطعوا له جزءا من عضوه الذكري وسط الزغاريد وطلقات الرصاص تعبيراً عن فرحتهم ببراءة ابنتهم وانتقاما من المجرم!
نفق مظلم
ربما تكون تلك الفتاة محظوظة لأن أهلها انتقموا لشرفها وجنبوها الآلام النفسية والوصمة الاجتماعية الناجمة عن هذا الفعل البشع، لكن هناك الكثير من الحالات التي تتذوق وحدها مرارة الاغتصاب وتختبئ خلف ستار من الخجل، والإحساس بالذنب، والخوف من المجتمع، وفقدان الأمل في مستقبل خصوصا في مجتمع يولي جسد المرأة أهمية قصوى ولا يغفر لها غالبا أي تجربة جنسية حتى لو كانت بالإكراه، مما جعل هذا النوع من القضايا محط اهتمام المدافعين عن حقوق الإنسان، سواء اغتصاب النساء أو الأطفال أو المعاقين، حيث تمتزج الممارسة الجنسية بأقصى درجات الألم المعنوي والروحي والنفسي. وتدخل هذه الجريمة في نفق مظلم حين يكون الجاني معروفا لدى الضحية أو من المحارم.
يُعبر الاغتصاب عن أي علاقة جنسية تتم بغير رضا أحد الطرفين، أو أن تكون الموافقة تحت التهديد أو استغلال الضعف أو التحايل أو إغراء الشريك أو سلبه إرادته. ورغم أننا كمجتمعات عربية نعاني كثيرا من آثار هذه الجريمة الجنسية، فإن القوانين مازالت قاصرة عن وضع عقاب رادع للمغتصبين، عقاب يراعي الأثر المدمر الذي يتركه الاغتصاب على الضحية بصفة خاصة، وعلى المجتمع بوجه عام. فمعظم القوانين العربية تعاقب بالسجن لسنوات متفاوتة بشرط توافر ركني الإجبار والممارسة الكاملة.
عقاب تعسفي
وقد طرحت سؤالاً على عينة عشوائية قوامها 60 فرداً، يقول: هل توافق على الإخصاء الكيميائي كعقاب لمغتصبي الأطفال وأصحاب السوابق في اغتصاب النساء؟!
رفض 46 شخصاً (معظمهم ذكور) فكرة إخصاء المغتص.ب، بينما وجدوا في السجن مدى الحياة (وأحيانا الإعدام) عقاباً أكثر قبولاً، وذلك لأسباب منها:
الإعدام يخلصنا من هؤلاء المجرمين نهائياً، ويكون رادعا اجتماعيا قويا لكل من تسول له نفسه تكرار الفعل، خصوصا في حال اغتصاب الأطفال.
الإخصاء عقاب تعسفي ومهين، يهدف إلى إذلال الرجل وتدميره نفسياً أكثر منه عقاباً على الفعل.
ربما يجعل الإخصاء الرجل أكثر عدوانية ورغبة في تدمير المجتمع وكراهيته ويتحول إلى قنبلة موقوتة تترقب الفرصة للانتقام من المجتمع الذي خصاه.
هؤلاء المغتصبون هم مرضى نفسيون أو عقليون ويحتاجون إلى العلاج وإعادة التأهيل، لأن بيئتهم الأسرية المشوهة لعبت دورا في انحرافهم.
فرنسا وأوروبا دول لا تعاني إحباطا وكبتا جنسيا مثل مجتمعاتنا العربية، لذا من حقها أن تضع تشريعات قاسية وحازمة للمغتصبين.
إذا أخصينا الرجل المغتصب، فنكون بذلك قد عاقبنا العضو الذي استخدمه في الاغتصاب وليس الشخص نفسه، وبالتالي من الممكن أن يستخدم شيئا آخر غير عضوه الذكري في تكرار الاغتصاب، ثم بماذا سنعاقب المرأة المغتص.بة أو التي تضغط على مستخدم أو موظف لديها كي يواقعها مكرهاً؟
لماذا يُسلب الرجل ذكورته في جريمة يلعب فيها بعض النساء دوراً سواء بسبب ملابسهن الفاتنة أو حركاتهن المغوية أو وجودهن في أماكن مشبوهة أو خروجهن في وقت متأخر من الليل، وعدم اتباعهن لقيم المجتمع وأعرافه. كما أن الوضع السياسي والاجتماعي الرديء يساهم في انتشار تلك الظاهرة في ظل البطالة والفقر وعدم القدرة على الزواج، وكثرة «المثيرات» في وسائل الإعلام المختلفة، ما يجعل الشباب تحت وطأة الهوس الجنسي فيلجأون إلى تعاطي الخمور والمخدرات والبحث عن أي تنفيس لإحباطاتهم.
الجزاء من جنس العمل
بينما قب.ل 10 فقط (معظمهم من الإناث) فكرة الإخصاء عقابا على إهدار كرامة إنسان وتدمير مستقبل طفل لا ذنب له وتلويث سمعة أسرة بأكملها، وان الجزاء يجب أن يكون من جنس العمل، فهؤلاء المنحرفون يستحقون أن يفقدوا قدرتهم النهائية على الاستمتاع الجنسي، كما أفقدوا غيرهم الاستمتاع بالحياة، فهو جزاء عادل.
ووقف 4 أشخاص على الحياد، انتظاراً لأخذ رأي علماء الدين ورجال القانون، وعدم التسرع في الحكم. تعبر استجابات تلك العينة عن الهلع الذكوري تجاه فكرة إخصاء الرجل، فمعظم الرجال رفضوا هذا العقاب، باستثناء حالات اغتصاب الأطفال التي قبلوا فيها به أو بالإعدام، ربما لأن عاطفة الأبوة هي التي حركتهم لاشعوريا نحو التضحية بالذكورة مقابل كرامة الطفل (الابن).. أما في حالة اغتصاب النساء، فالمجتمع بشكل عام يُدين المرأة المغتصَبة ويحملها قدرا من المسؤولية ويعتبرها شريكة في الفعل، بل ويعاقبها فيما بعد إذا فقدت عذريتها أو أصبحت حاملا، وتضعف فرصها في الزواج والعيش في المجتمع بسلام، ما يثير علامات الاستفهام حول هذا التراخي المجتمعي وغياب قانون رادع، وكأنها مقاومة نفسية ضد عقاب المعتدي بشكل يتساوى وحجم جريمته خصوصا مع الأطفال والمعاقين والمحارم!
قانون رادع
إن قضية الاغتصاب الجنسي تحتاج إلى وقفة صادقة وتشكيل لجنة من أهل الاختصاص (الطب والعلاج النفسي، القانون، التشريع) لمراجعة القوانين الحالية ووضع قانون يراعي حساسية وخطورة المشكلة ويتدرج في العقاب من شديد القسوة ورادع (كما في حالات الأطفال والقُصر والمعاقين والمحارم)، فلا يجب أن يتهاون المُشرع أو تأخذه الرأفة في إعدام أو إخصاء شخص تسبب في تشويه وتدمير حياة إنسان لا حيلة له ولا قدرة على الاختيار، فهل يكفي السجن مع أب أو ولي أمر هدمت حياة ابنه أو ابنته وشوه داخلهما صورة القدوة ومصدر الأخلاق؟! هل سيكون السجن مهما طالت مدته رادعا لشخص ثبت نفسيا واجتماعيا انحرافه وعدم قدرته على ضبط شهوته الجنسية؟!
بينما هناك حالات تخضع لتقييم القاضي ولجنة الحكم وأهل الاختصاص، بحيث تأخذ درجات للردع والقسوة في الحكم وربما يصلح معها السجن عقابا يتيح للجاني فرصة الحياة الإيجابية مرة أخرى، مع مراعاة جوانب عدة، مثل:
ــ أن تكون المجني عليها قد ساهمت في إغواء أو إثارة شهوات الجاني بأي طريقة.
ــ أن تكون هذه هي السابقة الأولى للمجرم، وترى لجنة الاختصاص إمكان تأهيل الجاني ليعاود الحياة مرة أخرى بشكل سوي.
ــ أن يكون الجاني مريضا عقلياً أو معاقا ذهنياً أو قاصراً، بحيث يكون في إبعاده أو عزله داخل مؤسسة علاجية أو تناوله أدوية مثبطة للغريزة شكلاً مناسباً للعقاب.
هناك جوانب أخرى مهمة يجب الالتفات إليها، مثل: التوعية المجتمعية بعدم التستر على المجرم لأي سبب، ما يمنحه فرصة لتكرار فعله مع أشخاص آخرين مستغلا عدم قدرة الكثيرين على البوح خوفا من الفضيحة وموقف المجتمع السلبي وغير الواعي، كما أن من المهم العمل على تغيير نظرة الناس للشخص المغتصَب، خصوصا المرأة، فيكون ذلك داعما لها لمواصلة حياتها بأمان وإيجابية. أما الأطفال فيحتاجون منا جميعا مساندة ومؤازرة نفسية واجتماعية حتى يمكنهم تجاوز هذا المأزق الإنساني شديد الخطورة، والقفز عليه إلى حياة أكثر توافقا واستقرارا.
جريدة القبس