مجد جابر
خلال تجمعهن كالمعتاد في المساء بعد يوم طويل من العمل، شعرت العشرينية هبة عطا فجأة بهدوء كبير يخيم على المكان، الأمر الذي جعلها ترفع رأسها عن هاتفها الذي لا يفارق يدها حتى تعرف سر هذا الهدوء.
فإذا بها تفاجأ بمنظر أفراد عائلتها الذين انشغل كل واحد منهم بجهازه، فغرق في اللعب، أو "الشات" أو الحديث عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
تقول هبة: "لم أكن أتوقع أن الإدمان على التكنولوجيا سيصل بنا الى هذه الدرجة، فالكل منغمس في هاتفه، وعلى وجهه ملامح الابتسام أو الاسترخاء الذي تفرضه طبيعة الحوار، أو القلق والتوتر من نفاد البطارية وانقطاع الاتصال".
وتشير إلى أن الجلسة العائلية باتت مملة، فالكل غارق في هاتفه، ولا يحدّث أحدٌ أحداً، مبينةً أن التكنولوجيا باتت تشكل خطرا على العلاقات الاجتماعية بصورة كبيرة.
الثلاثينية سهى علي التي اعتادت الخروج هي وصديقاتها لتناول فنجان قهوة في الخارج، تقول: "بات اللقاء مرهونا بشروط كثيرة، أوّلها أن يكون المقهى الذي نجلس فيه مزودا بنظام "wifi"، وثانيها أن نمضي الطلعة في التقاط الصور، وتحميلها على "فيسبوك" و"انستغرام"".
وتضيف "يمر الوقت كله ونحن على الموبايلات، إمّا في تحميل صور، أو في التصوير، أو في "تشييك" مواقع التواصل، ما يجعل التواصل بيننا منقطعا، أو على الأقل متقطعا. وبعد أن تعود كل واحدة لبيتها تعاود على الفور التواصل مرة أخرى على "الواتس اب"، لتواصل الحديث في الأمور التي بدأتها أثناء اللقاء ولم تكملها".
وتضيف أنهن قررن في آخر مرة خرجن فيها معا أن يضعن هواتفهن جانبا على طاولة الجلوس، وألا تلمس أي منهن هاتفها أثناء اللقاء، لكن الذي حدث أنهن شعرن أن الجلسة لم تعد مريحة بعد أن سادها صمت ممل، بسبب العيون المسمرة على الهواتف الصامتة التي تنتظر اللحظة التي يخترق فيها الهاتف ذلك الصمت الممل، حتى تعود كل "حليمة" إلى عادتها "الجديدة".
وبحسب الدراسة التي أصدرتها "إبسوس" الأردن للبحوث عن العام 2012، فقد بلغت نسبة انتشار الهواتف الذكية 49 %، منها %50  للفئة العمرية (15-24 سنة)، و53 % للفئة العمرية (25-34 سنة)، و41 % للفئة العمرية (35-44 سنة).
وبحسب الدراسة نفسها، فإن التطبيقات الأكثر استخداماً موزعة على النحو الآتي: 53 % منها للشبكات الاجتماعية، و41.7 % للمحادثات والمراسلات، و40.7 % للألعاب، و28.9 % لـ"الملتيميديا".
وفي ذلك، يرى الاختصاصي الاجتماعي النفسي، د.موسى مطارنة، أن هذا السلوك "جديد على المجتمع، ناتج عن تطور التكنولوجيا والمعلومات التي فرضت نمطا جديدا من التواصل الاجتماعي الذي خلق فجوة كبيرة بين الواقع الحياتي والعالم الافتراضي".
ويضيف أن هذا النمط أنتج "ثقافة اجتماعية خطيرة، تعتمد على تقييد الحس الاجتماعي الطبيعي، وتلاشي التفاعل بين الناس"، مبيناً أن هذه الثقافة "البليدة" تغرق جيل الشباب والمراهقين في الحلم والابتعاد عن الواقع، والانعزال عن الحياة، بسبب ما توفره لهم من تعويض كاذب عن الكبت العاطفي والاجتماعي.
لكنْ في النهاية لا تحقق لهم هذه الثقافة، وفق مطارنة، سوى المزيد من الإحباط والسلوكيات النفسية والاجتماعية الخطيرة التي تؤدي إلى مشكلات معقدة؛ كالطلاق، والعلاقات العاطفية الفاشلة، وغيرها من الخيبات.
هذا فضلا عما تخلقه هذه الثقافة من "فتور في العلاقات الاجتماعية، بعد أن صارت التهنئة والتعزية والمعايدة تتم عن طريق هذه التكنولوجيا التي أذابت التواصل الاجتماعي بين الناس، وخلقت فجوة إنسانية اجتماعية لا أحد يعرف عواقبها".
خالد علي، شاب "مهووس" بالعبث بهاتفه، فهو لا يخرج من البيت بدون أن يتزود ببطارية إضافية، والشاحن، حتى يكون على يقين أن هاتفه لن "يقطعه"، وهو خارج البيت، كما يقول.
من جانبه، يرى الاختصاصي النفسي، د.محمد حباشنة، أن ما يحدث حالياً في مجتمعنا هو ما اصطلح على تسميته بـ"النوموفوبيا"، وهو رهاب غياب الهاتف. فهذا الرهاب يجعل الناس يخشون غياب الهاتف، أو تعطل تطبيقاته المختلفة.
ويشير إلى أن الشخص أصبح لا يستطيع العيش من دون هاتف، ولذلك يظهر القلق والتوتر على وجهه لمجرد نفاد شحن البطارية، وكل هذا بسبب الاعتماد الكامل على التكنولوجيا.
ويضيف حباشنة أن المجتمع يسيء استخدام الهاتف بكل تطبيقاته، مبيناً أننا مجتمع استهلاكي حتى في التكنولوجيا، وشعب نهم يختصر التواصل الاجتماعي الطبيعي بتواصل سطحي من خلال التكنولوجيا.
ويعتبر أن المجتمع بات يلجأ إلى السطحية السهلة، بدلا من اعتماده على العمل الذي يحتاج إلى جهد، "وقد سهّل ذلك وجود جهاز بأيدينا يحوي كل وسائل التسلية والتواصل السطحي، والطرق السريعة والهجينة التي لم يعد اختصار المسافات فيها إلا حلما من أحلام اليقظة".
"للأسف الشديد، بات أمر انشغال الأفراد بالهواتف أثناء اجتماعاتهم الأسرية ملحوظاً جداً"، وفق الاستشاري الأسري د.أحمد سريوي، الذي يشير إلى أن ذلك "يسبب فجوات بين مكونات الأسرة الأساسية والفرعية".
ويبين أنه عندما تزيد الفجوة يزيد التباعد في أسلوب التفاهم ويضعف الحوار والنقاش، وهذا كله يؤثر سلباً على أسلوب التربية.
ويلفت سريوي الى أن انتشار هذه الظاهرة يسبب "الانطوائية"؛ فمعظم هؤلاء الناس منعزلون اجتماعياً، ما يؤثر على قلة الروابط في المجتمع عموما.
وينصح سريوي بحل لهذه المشكلة بوضع الهواتف جانبا أو إغلاقها عند وجود جلسات عائلية، وتنظيم وقت عائلي محدد لأفراد الأسرة يجلسون فيه يوميا بعيدا عن التكنولوجيا؛ حيث يتناقشون في أمورهم العائلية في أجواء أسرية مرحة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

JoomShaper