عبد الكريم البليخ- الأزمنة
يُعتبر خروج الزوج إلى العمل كالمعتاد متنفساً للزوجة لكي تُؤدِّي واجباتها اليومية، على أكمل وجه، وهي واجبات تتخللها في كثير من الأحيان، زيارات صباحية إلى الأهل والجيران، كما تستغل بعض الزوجات أوقات فراغهن لممارسة هوايتهن المفضلة المتمثلة في الحديث عبر الهاتف، إلى صديقة أو قريبة تاركات بعض المهام المنزلية في عهدة بناتهن البكر أو الأصغر سناً، وهي نشاطات من الصعب على الزوجة ممارستها في ظل وجود زوج متقاعد يحصي عليها سكناتها، وحركاتها.. وقد تتلاشى تدريجياً وتصبح الأمور الاعتيادية التي كان الزوج لا يقف ولا يُعلّق عليها أخطاءً من الواجب تصحيحها، حتى أن كثيراً من الزوجات يشتكين من رتابة الحياة مع الرجل المتقاعد، وازدياد حساسيته تجاه بعض الأمور التي كانت تُعتبرُ سابقاً من الأمور الاعتيادية، وقد تثار المشاكل في كثير من الأحيان بين الاثنين إذا ما أحسّت المرأة ـ الزوجة ـ أن ما يفعله الرجل هو من صُلب عملها المنزلي.
بداية المشكلة مع الأسرة
تقول شفيقة عبد الله، أم محمد، وهي ربة منزل: إن زوجها أصبح يتدخل في أمور لم يكن يُعيرها اهتماماً قبل التقاعد.
فقد كان في الماضي القريب، مهتماً بوقت الغداء، ودرجات الأولاد في المدرسة وعمله، أما الآن فأصبح جالساً في البيت يهتم بديكورات المنزل، وجمال الحديقة، وطريقة لبس الأولاد، ونومهم لدرجة أنه صار يُعلّق على طريقة جلوسهم، وأكلهم بشكلٍ واضح، مما جعلها تشعر بأنَّه يتدخل في مسؤولياتها في البيت، وأصبحت الزوجة في نظره مقصّرة في واجباتها المنزلية بصورة خاصة، وتربية الأولاد.
وتضيف خاتون الحبوش، أم خالد: بأنَّها قاطعت معظم صديقاتها لتكون بجانب زوجها، وأوقفت بعض النشاطات التي داومت عليها على مدى سنين طويلة، لتذمّره الدائم من عدم وجودها في المنزل، وتتمنى عودة مقاهي أيام زمان التي لم يَعد لها ظهور منذ زمن مضى وانقضى لتشغله عنها، وتستطيع مواصلة أسلوب المعيشة الذي اعتادت عليه قبل جلوس زوجها في البيت، وتدقيقه في أصغر الأمور التي لم يكن يراها من ذي قبل.
أما حالة والد سهام، الذي يسكن معها منذ وفاة والدتها، فهي تختلف إلى حدٍ ما، فوالدها عانى من اكتئاب حاد بعد التقاعد بسبب عدم كفاية الراتب لمصاريف أسرته، مما اضطره لتخفيض بعض تكاليفه عن السابق حتى تتماشى مع دخله التقاعدي.
خميس العبد الله، رجل متقاعد، بات يرى الكثير من الأخطاء في بيته قبل تقاعده، ولم يكن يُعيرها أي اهتمام بسبب عدم توافر الوقت، أما بعد تقاعده فقد صار من الواجب عليه تصحيح ما يُمكن طالما سنحت له الفرصة لذلك.
ويضيف جمعة الحسن، متقاعد: أن حالته الصحيّة أجبرته على التقاعد حيث تسبب وجوده في البيت، وتأففه الدائم في إزعاج أهل بيته، لكن جمعة يستدرك بأنَّه لا يستطيع التحكم في تدخلاته بسبب عمله السابق كمدير مما أثر في أسلوب تعامله مع أفراد أسرته، وهو كما يؤكد: صار لا يستطيع التعايش مع أسلوب الحياة الجديدة.
دعوة للخلاص من الوحدة
وتفيد إحصائية سلوكية بأن الانعزال، والانفراد بعد التقاعد، يورثّان أموراً، في مقدمتها: الوساوس والكآبة، اللتين تُسببان الكراهية والانطوائية.
فالرجل في هذه الحالة يعتمدُ كثيراً على زوجته بأن تُخرجه من جو الكآبة ومأساتها، التي أصابته بإحباط شديد نتيجة جلوسه لفترة طويلة في البيت، والاعتماد عليها في الكثير من الأمور التي كانت سهلة المنال بالنسبة له.. فأصبح يقع عليها اللوم والمسؤولية، ويعتقدُ أنَّها هي المسؤولة عمَّا هو عليه اليوم.
وتضيف الإحصائية: بأن الزوجة، بشكلٍ عام ليست مسؤولة عن المراحل التي يمرُّ بها الزوج في حياته، حيث أن العبء يزيد على الزوجة التي تجدُ نفسها مضطرة لتحمل أوامر وتوجيهات زوجها وهي أمور لم تكن تُثير انتباهه في السابق.
كما أن العمل عموماً يمنح إطاراً لحياة الشخص، والتقاعد يُزيل هذا الإطار الذي يَعتبر دوره أساسياً ومهماً في حياة أي شخص كان، وهو البرنامج اليومي الذي يسيرُ عليه الشخص أثناء مزاولته لعمل ما.
هو السوق
ويذكر أنه للاهتمام بالمتقاعدين تأسست في الغرب، جمعيات لتهيئة العامة لقبول المتقاعدين وبذل الجهد في دراسة كل ما يتعرّضون له بعدما قدموا في حياتهم من خدمات جليلة، وإرشادهم إلى قضاء ما عندهم من فراغ، حتى لا يتسرب إليهم الملل، ويضجرون ممن حولهم، حيث ترشدهم هذه الجمعيات إلى طرق لتمضية وقتهم مثل ممارسة الرياضة، حتى يُشعر المتقاعد بقيمته في المجتمع، وبأنَّ ما قدَّمه من خدمات لم يذهب أدراج الرياح.. ولكن هنا في الرقّة الوضع مختلف تماماً، والمجتمع الرقّاوي ما زال يُعَدُّ ذا طبيعة ريفية متأصلة، يربطه حب الاجتماع، والتواصل، والتآخي.. وقد حلت معظم عُقَد المتقاعدين الذين أزاح عنهم تواجد المقاهي وبهذا الزخم كل همّ ونكد!
حيث تمتلئ المقاهي بالأصحاب والأحباب الذين فرقتهم سنوات العمل لتجمعهم، أضف لذلك أسواق الرقة الشعبية التي يمارسون بها أنشطتهم التجارية، سواء أكان ذلك في إحدى محلات التحف، أم الملابس، أم المواد الغذائية أم غيرها من الأنشطة التي تعجُّ بها أسواقها، وبصورة خاصة سوق الرقة القديم ـ شارع القوتلي.
وما زال يحتاج كل جديد
محمد خليفة، أبو رضوان، متقاعد وصاحب محال صغير، يقول: لم أعد أعرف كيفية التكيّف مع الواقع الجديد بعد التقاعد، فأمضيتُ بداية سنواتي في التقاعد في التنقل والسفر، الذي لم أجنِ منه منفعة، أما الآن، وبفضلٍ من الله، فأنا مستمتع بمحلّي الصغير هذا، وحرصتُ على أن أوفّر مجهودي في السفر لجلب كل ما هو جديد من المواد وإغنائه به، وجعله مميّزاً ومعروفاً وذلك بأقصر وقت ممكن.
أما المتقاعد عمر الشيخان، فقال: أنا لا أملكُ أي نشاط في السوق، وأفكر صراحةً في أن أتخذ نشاطاً ما، ولكن لم أحدّد إلى الآن ما هو، وكيف أبدأ ؟ وأجد أن السوق هو الحل الوحيد للترويح عن النفس، والهروب من البيت، بسبب الصخب والإزعاج الذي بات يُعاني منه الجميع على حدٍ سواء، والتفرغ للعمل الخاص، لاسيما وأن العمل هو أفضل ما يُميّز الإنسان، ومن خلاله يُمكن قتل الوقت، ناهيك عن الإفادة المادية وهذا ما يدفع بنا نحو حياة أكثر استقراراً وسعادة، والمفروض الاهتمام بالمتقاعدين والعمل على تعيينهم بعقود سنوية، وهذا أقلّها للاستفادة من خبراتهم الطويلة، في مجال عملهم، وهم اليوم قادرون أكثر مما مضى، وهذا كما أظن، أنفع لهم وأقوم لحياتهم.
ونوّه المتقاعد خلف الحميّد، وهو صاحب محل عطارة، إلى أن السوق لوّن حياتي بألوان زاهية.
فبعد هذا العمر المديد في العمل، أصبحتُ الآن أمارسُ مهنة آبائي وأجدادي بروح الهاوي وليس بروح المحترف.. وأجدُ فيها كل المتعة، ولدي زبائن من مختلف المحافظات في القطر.
مجموعة من المتقاعدين ، ومن بينهم محمود الحسن، إبراهيم الخابور، وشعبان العرودة ،أفادوا: بأن أسواق الرقة باتت تشهدُ تطوراً واهتماماً كبيراً على أعلى المستويات، لذلك فإنهم طالما يُفكرون بإقامة مشروعات إما بالشراكة فيما بينهم، أو بإقامة مشروعات صغيرة تتلاءم وظروف وإمكانات كل شخص، وبحسب حاجة السوق ومتطلباته اليومية.
الفوز بأعمال جديدة
بات يُفكر العديد من المرتادين للسوق بتنظيم رحلات جماعية للحج والعمرة تنطلق من هنا، وذلك عن طريق فتح مكاتب للسياحة والسفر مخصّصة لهذه الغاية، وتنظيم الحملات للعمرة وذلك طوال العام.. بالإضافة إلى رحلات السفر الجماعية التي صار يتدارسها كبار السن، وذلك في اختيار المكان الذي سيكون محط توجههم، وذلك وسط صحبة كبيرة، وتفاوت في الآراء حول تحديد الوجهة لمتعتهم القادمة.
كما دفع بالكثير من المتقاعدين، الذين سبق وأن ادخروا مبلغاً من المال، بالاتفاق مع زملاء آخرين لهم، وبالتضامن مع بعضهم بعضاً، التمكن من ممارسة مهنة أو حرفة، أو إدارة أي نشاط آخر، وإن كان ذلك في محال صغيرة، والهدف هو كسب قوت يومهم، والتغلب على ما هم فيه من أجل تخفيف العبء عنهم، وتأمين بعضٍ من احتياجاتهم اليومية، وما أكثرها.
السوق، في الواقع حوَّل حياة الكثير من المتقاعدين إلى خلية نَحِل، وبثَّ فيهم روح العمل، والإقدام عليه، وهذا ما انعكس، وبشكل إيجابي على حياتهم، مادياً ومعنوياً، وقلبها رأساً على عقب.
ما تابعناه، يُشير صراحةً، إلى مدى الاجتهاد والعمل الدؤوب الذي يبذله عدد كبير من المتقاعدين الذين حاولوا، وباضطراد لامثيل له من تحقيق أمنياتهم، من خلال انخراطهم في الكثير من الأعمال المختلفة التي غيَّرت، وإلى حدٍ بعيد، من مسار حياتهم، وبرنامجهم اليومي، الذي كان يلّفه الكثير من الغموض، وجعل منهم أناساً منتجين بعد أن كانوا عالة على الأسرة والمجتمع، وهذا ما خلق لدى الكثيرين منهم التوق للعمل والتعلق به، ما فسح المجال أمام المرأة ـ زوجة المتقاعد ـ التعايش في بيتها بصورة أفضل مما كانت عليه سابقاً، وقضاء وقتها فيه، وبحرية مطلقة، بعيدة عن التعرّض لأيِّ خلاف جانبي، قد يفسد للود قضية، وإن كان مع زوجها المتقاعد الذي كان يقضي فيه ساعات طوال، وبهذه الحالة جعلت من هذا العامل المتقاعد إنساناً أكثر تفاعلاً ومنتجاً في الحياة، بدلاً من قضاء جلّ وقته في أحوال وأمور لافائدة ترتجى منها.
بقي أن نقول: إن ما حقّقه العمّال المتقاعدون، يؤكد مدى تشبثهم بالحياة، ورؤيتهم لها بصورة جميلة وأخاذة، ما دفع بهم إلى الفوز بأعمال جديدة ومتفرّدة، تُثري يومهم وتُغنيه، قوامها المتعة، وقضاء وقت، وكسب حلال..
سيرياستيبس