لا يمكن أن نتخيل دولة مستقرة، تُنظم أمورها وتُسير شؤون من فيها عبثاً، دون دستور منهجي، يضبط كافة جوانب الحياة بين جنباتها، وينظم أمور سكانها؛ ليمنحهم الإطار المرجعي الذي يحوي القوانين التنظيمية لأفرادها من تعامل، وحفظ الحقوق بينهم، وحل ما تظهر من مشكلات بمرونة دون تعدي على حقوق الآخرين. فهو بمثابة لائحة إرشادية مرجعية تنظم الحقوق والواجبات بين أفرادها.

فكيف بنا نرى حياة زوجية مطمئنة دون دستور زوجي، ينظم هذه الدُويلة الصغيرة! خاصة إن كانت حديثة عهد بالإنشاء، و تفتقر للخبرة من كلا الزوجين؛ لذا كان من أولويات بناء أي أسرة: إنشاء دستور شامل يضبط نظامها واستقرارها، ويجمع بين المرونة والانضباط لأفرادها؛ بناء على اتفاق بين الشريكين، وقبل أن يصبحا زوجين وذلك في فترة الخِطبة إن تمكنا من ذلك، أو في الفترة الأولى من الزواج، شأنه كشأن أي مشروع يتم تأسيسه، وتحديد خُطوطه العريضة بشكل واضح قُبيل إنشائه. بالإضافة إلى تحديد أهدافه؛ ليكون أكثر استقراراً ونجاحاً بإذن الله؛ وليكون ضابطاً لسلوكهما تجاه حياتهما، ومحافظاً على حياتهما من الزلازل والمشكلات التي قد تهز أمن حياتهما واستقرارها. فهو بمثابة وثيقة تأمين على حياتهما الزوجية؛ لضمان

استقرارهما النفسي والزوجي.

والحديث عن الدستور الزوجي ليس حديث العهد، ولا وليد هذا الزمان، بل هو ممتد من عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث نستقي من حياته الكثير من الآداب والفضائل، التي تُشير لهذا المفهوم دون أن يكون لها المسمى نفسه.

ففي سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيت النبوة دستور مثالي للحياة الزوجية المستقرة المنضبطة، ويمكن أن نشير إلى بعض جوانب الدستور النبوي في بيته؛ ليكون لنا كإشارات مرجعية في إنشاء دستور حياتنا الزوجية المستقلة، ومن أهم ما جاء في دستور بيت النبوة:

التفهم والفهم المتكامل لشخصية كلا الزوجين: فمن المهم أن يفهم كل زوج شريكه، ويتعرف على كافة جوانب شخصيته، وذلك منهج البيت النبوي الذي بلغ فيه أعظم مبلغ في فهم الطرف الآخر في كل أحواله، حتى دون أن يتحدث ويشرح ويفصل؛ لأنه بالفهم العميق استنبط معان يقصدها الآخر، دون أن يتحدث عنها. وذلك نجده في موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عائشة رضي الله عنها. فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لها: ((إنِّي لأعلمُ إذا كنتِ عنِّي راضية، وإذا كنتِ عليَّ غضْبَى))، قالت: وكيف يا رسول الله؟ قال: ((إذا كنتِ عنِّي راضيةً، قلتِ: لا، وربِّ محمَّد، وإذا كنتِ عليَّ غضبَى قلتِ: لا، وربِّ إبراهيم))، قالت: "أجلْ، والله ما أهجر إلاَّ اسمك"رواه البخاري.
فلم يكن هذا الفهم للزوجة إلا بالاهتمام والقرب بينهما، والذي لم يكن أيضاً بمعزل عن التفهم لشخصية زوجته برحابة صدر في كل لأحوال في الرضا والغضب. والصبر والتقبل للاختلاف بين طبيعتهما النفسية، وحسن التعامل معها، مع طيب المعشر ولين الجانب. فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام. فضربت التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت. فجمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيها) رواه البخاري.

فقد تفهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طبيعة المرأة وغيرتها، فلم يُعنف ولم يُسئ المعشر، بل التمس العذر لها ـ رضي الله عنها ـ.

الانصات والتودد: وقد أسس فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهج التعامل بين الزوجين والذي يقوم على حسن العشرة والأنس بالزوج والتودد إليه. ففي حديث أم زرع تلك الحكاية المطولة التي حكتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن إحدى عشر امرأة مع زوجها، وكيف كان الزوج مع كل واحدة منهن، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستمع بإنصات، ثم يختار أفضل زوج ذكرته في القصة؛ ليقول لزوجه ((كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ))رواه البخاري ومسلم. ليثبت حسن المعشر بينهما، ويزيدها بقوله صلى الله عليه وسلم (إِلَّا أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَإِنِّي لَا أُطَلِّقُكِ)هذه الزيادة وردت عند الإمام النسائي؛ لعلمه لحاجة الحياة الزوجية للأمان لتدعيم استقرارها. وكذلك ليرسخ الأمن في نفس الزوجة.
التجديد في الحياة الزوجية: عنصر مهم لكسر الرتابة، وإعادة النبض في وجدان كلا الزوجين. فلم يمنع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم كل الأعباء والمسؤوليات قضاء بعض الأوقات الممتعة مع زوجه؛ لكسر الرتابة الزوجية، ومن أمثلة ذلك: دعوته لها لترى لعب الأحباش بحرابهم، بالإضافة إلى مسابقته لعائشة ـ رضي الله عنها ـ وقد قالت: كنت أنا ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سفر فتقدم أصحابه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سابقيني، قالت فسابقته فسبقته. فلما كان بعد وحملت اللحم، قال: سابقيني فسابقته فسبقني فقال: (هذه بتلك) رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما وصححه الألباني.
والأمثلة من حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع زوجاته كثيرة ومتنوعة. ننهل من كل قصة وحادثة العبر والدروس، لو تأملناها لكانت من أهم دعامات حياتنا، وسنداً لقوامها من الاعوجاج؛ لأن بيت النبوة بيت أُسس منذ نشأته على دستور ثابت ومنهج رباني. ومن هنا كانت أهمية تحديد أبجديات العلاقة الزوجية بدستور ينظم الحياة بينهما، مستوحى من حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه بتلك مع زوجاته رضوان الله عنهن. قائم بالأساس على رضا الله وتوحد الهدف بينهما، سواء الهدف في إرضاء الله، أو حتى تأدية الأمانة بتربية الأبناء على مبادئ ثابتة، وهذه من أهم الأركان التي يقوم عليها الدستورالزوجي بشكل عام. بالإضافة إلى بعض المصطلحات العامة التي يعمل الزوجان على تعريفها من الجانب النفسي والشخصي لهما، فالغاية هي تفهم كل طرف للآخر، لا سن قوانين جامدة غير قابلة للتطبيق.

فالدستور الزوجي لابد أن يكون مرنا ومتطورا ليواكب المشاكل الزوجية المتغيرة بتغير الزمان والمكان، ويقوم علي حل أي مشكلة أو نزاع يطرأ في المستقبل. ويكون قابلا للتطوير، كلما ازدادت سنوات الزواج أو رزقهم الله بالذرية.

فمن المهم تحديد هدف مشترك لهما في الحياة، يجمعهما رغم اختلاف شخصياتهما، ومهما اختلفت بيئاتهما، وفي ضوئه يتم إيضاح الحقوق بينهما، ليتبين لكلاهما ما له من حقوق، وما عليه من واجبات فيقف عليها. ويضع ضوابط واضحة في أدب الخلاف وحل المشكلات كما فعل الصحابي فعن إبراهيم بن أدهم: أن أبا الدرداء قال لأم الدرداء: ((إذا غضبت [فأرضيني] وإذا غضبتِ أرضيكِ. فإنا ألا نفعل يوشك أن تفتري). فضلاً عن الإطار العام للدستور، والذي يحوي مبادئ عامة تهم كلا الزوجين، وتضبط سلوكياتهما من احترام وإشباع للاحتياجات لكليهما وأساليب التعامل اليومية، كما يرتضيها كليهما، وإدارة للأمور المالية الأسرية وحفظ للأسرار الزوجية. إذ إنه من المهم رسم حدود لاستقلالية حياتهما بمنع أي تدخلات خارجية، مع الحفاظ على سرية الحياة، وحل المشكلات قبل أن تتفاقم، مع الالتزام بأدب الحوار والاحترام حتى أثناءالخلاف.

ومن أهم الفوائد التي يجنيها الزوجان من عقد اتفاقهما وتطبيقهما للدستور الزوجي: إحلال الاستقرار في الأسرة، والحد من المشكلات، وتفهم سبل حلها بناء على ما اتفقا عليه من مبادئ، وما فهما من شخصية بعضهما. فهو يقدم الوضوح، ويمنح الحوار والتشاور بينهما على أمور الحياة كبيرها وصغيرها؛ مما يزيد القرب بينهما من خلال مشاركتها في حياة موحدة، يستشعر كلاهما أنه ركن أساسي له أهميته، وعليه قدر من المسؤوليات لابد من القيام بها. ويزيد من الترابط بين الزوجين، فهو يُفعل الحوار والمشاركة في القرارات بشكل دائم. وينظم الأمور الأخلاقية، والمسؤوليات من حقوق وواجبات، ويُأطر أساليب التعامل والتربية، ويوحد الأهداف، فهو مجلس شورى مصغر متعدد المهام.

ومع ذلك فالدستور الزوجي حتماً لن يمنع الخلافات الزوجية، لكنه يمنحها التنظيم والانضباط؛ لتسير في الاتجاه السليم نحو حلها ومنع تراكمها وتشعبها. ويبقى الخُلق الحسن، وطيب المعشر خير إطار لدستور الحياة الزوجية. وخير ثمرة لهذا الدستور الذي هو ثمرة حوار وتشاور لتنظيم العلاقات الثنائية مقتدياً ببيت النبوة، ومتوافقاً مع روح العصر، لكن بلمسة زوجية مشتركة.

 

JoomShaper