د. خالد بن محمد الشهري
امتنَّ الله عز وجل علينا بنعمة؛ أن خلق لنا من أنفسنا أزواجًا؛ لنسكن إليها، ولن تكتمل سعادة الإنسان، ولن يتبدَّد قَلَقُه حتى يجد شريك حياته الذي يُناسبه، ويتوافق معه، ويُقاسمه لحظات حياته بما فيها من سعادة أو صعوبات؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
أساس بناء الأسرة في الإسلام قائم على:
• المودة.
• والرحمة.
والمودة تعني المحبة؛ وذلك أن المحبة تؤدي إلى إشباع حاجات ومشاعر صاحبها.
والرحمة بمعنى الشفقة والرأفة: وهي تؤدي إلى إشباع حاجات الطرف الآخر، وهذا المعنى يؤدي إلى اكتمال البناء النفسي والاجتماعي للأسرة بشكل متوازن.ولكل مجتمع طريقة مختلفة في طرق بناء الأسرة، تختلف باختلاف الثقافة والعادات والتقاليد والدين، ونحن نجد أن الإسلام أولى تكوين وبناء الأسرة أهمية بالغة؛ لأنها أهمُّ مكوِّنات المجتمع وعليها تُبنى الأُمَّة.
وقد حدَّد الإسلام أهم المواصفات التي بناءً عليها يتمُّ اختيار الزوجة التي بيَّنها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((تُنكَحُ المرأةُ لأربَعٍ: لمالِها، ولحَسَبِها، وجَمالِها، ولدينها، فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداكَ))، فحدَّد أهم شروط اختيار الزوجة وهو دينها.
وتلك المواصفات نفسها: المال والحسب والجمال، كذلك تنطبق على اهتمام المخطوبة للخاطب لقبول خطبته؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم أكَّدَ أهمية دينه وخُلُقه كما في قوله: ((إذا خَطَب إليكم مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَه وخُلُقَه فزَوِّجُوه، إلَّا تفعلوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ)).
لماذا يعتني الإسلام بدين المخطوبة؟ ولماذا يؤكد على دين وأخلاق الخاطب؟
السبب أن صاحبة الدين وصاحب الدين، رقابتهما ذاتية؛ وهي مراقبة الله عز وجل، وبسبب هذه الرقابة يستشعران ضرورة حُسْن العمل؛ لأن صاحبه محاسبٌ عليه، وأقوى أنواع الرقابة هي الرقابة الذاتية، وهي أقوى وازع للسلوك الإنساني لعمل الخير؛ كما أنها أقوى رادع له عن مسالك الشر.
والمقصود بالدين في مواصفات المخطوبة أو الخاطب هو الدين الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في سُنَّته الصحيحة، وليست تلك المفاهيم الشخصية للأفراد أو تلك العادات الخاطئة التي ينسبها البعض إلى الإسلام وهي بعيدة كل البعد عنه، والمقصود بالخُلُق في تلك الوصية النبوية هو كل ما يتخلَّق به الإنسان في تعامُله مع الآخرين طوال حياته في جميع جوانبها، وليس ما يتظاهر به أمام الآخرين، ويخالف سلوكه داخل بيته ومع أهله، فحقيقة خُلُقه هي ما يغلب على سلوكه ظاهرًا وباطنًا، وليس عيبًا ولا مُحرَّمًا أن يرغب في المرأة المخطوبة الغنى والجمال والنسب؛
لكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك)) يُحدِّد المعيار الذي يجب أن تُبنى عليه الأولويَّات مع ملاحظة أنه الأساس المتين الذي تقوم عليه الرابطة الزوجية وبه أيضًا تدوم، ثم تأتي المعايير بعده تباعًا.
هذه المواصفات في الإسلام لبناء اللبنة الأولى لأسرة المستقبل مرتبطة تمام الارتباط بمنهج الإسلام في الحياة وطريقة بنائها، وارتباطها بخالقها وبمنهجه القويم الذي يريد للإنسانية أن تسير عليه، وواقع المجتمعات المعاصرة يُؤكِّد صحَّة هذا المنهج وأفضليته، كما أنه يُحقِّق الوقاية للأسرة والمجتمع، ونظرة فاحصة لحال الأسرة في العالم اليوم تُؤكِّد أهمية هذه المعايير التي أكَّدها الإسلام لبناء الأسرة، ولا يقف الأمر عند هذه المعايير لتكوين الأسرة؛ بل تستمرُّ مصاحبة الإسلام لهذه الأسرة لتضع موازين العلاقة والسلوك فيما بين الزوجين ثم ما بين الأبوين والأبناء في مرحلة تالية، وكذلك العلاقات داخل الأسرة وخارجها، وهكذا في كل شؤونها لتمتدَّ تلك العلاقات حتى تشمل المجتمع وتنتظمه كاملًا، وبقدر امتثال الأسرة لتلك المعايير الأخلاقية بقدر ما تتمُّ صيانة المجتمع، وتزيد نقاوته ومثاليَّتُه.
وبرغم تخلِّي كثير من المسلمين عن كثير من المعايير الأخلاقية التي دلَّهم عليها الإسلام إلا أنهم ما زالوا أفضل حالًا في جانب الأسرة من المجتمعات غير المسلمة بكثير، فكيف سيكون الحال لو تمسَّكوا بمعايير دينهم بشكل أكبر؟!