مما لا شك فيه أن الأفكار والرؤى والمواقف تتغيّر بفعل عامليْ الزمان والمكان، ولعل المشهد الاجتماعي والحضاري يشي بعمق وسرعة هذا التغيّر الواعي أو المفروض على حدّ السواء. وبما أن الأسرة بحكم موقعها الاجتماعي تعتبر الخليّة الأولى التي تصنع هذا التغيّر باعتبار الأدوار التربوية التأسيسية التي تضطلع بها. ومن هذا المنطلق تلحّ علينا جملة من الأسئلة لعلّ أهمها: هل الأسرة هي المسؤولة عن الانحرافات التي تصيب المنظومة الأخلاقية القيمية؟
منظومة القيم تتشكّل عبر التراكم وفق مرجعيات متعدّدة منها الدينية والثقافية الاقتصادية والحضارية، ولكن تبقى لكل مجتمع خصوصية ما يُوكَل للأسرة الدور الأول في الحفاظ عليها لأنها واجهة من واجهات الهوية.
الدور التربوي للأسرة شديد الأهمية فإن نجحت في أدائه على الوجه الأكمل ساهمت في التماسك الاجتماعي وفي تطوير الآليات التي بواسطتها تتقدم الشعوب. الأخلاق ليست سوى مقاييس معيارية بل هي ثقافة وعقلية. فبالإضافة إلى قائمة القيم السائدة كالاحترام والحياء وحسن التخاطب وحسن المعاشرة.. هناك جانب آخر لا يقلّ أهمية في هذه المنظومة، كأن نعلّم أطفالنا كيف يحترمون مواعيدهم، وخاصة منها التي تتعلق بإنجاز أعمال أو أشغال ما، وأن نجعلهم يقدّرون الوقت كقيمة في ذاته، وأن يحترموا الاختلاف مهما كانت حدّته ووتيرته، وأن يجابهوا المصاعب بروح قتالية، وأن تكون للمسنّ والطفل والمرأة مكانة اجتماعية خاصة، وغيرها من هذه المفاهيم التي لها صلة مباشرة بالعلاقات التي تجمع البشر سواء داخل المحيط الأسري أو خارجه. إذن فالتربية الأسرية تنعكس -إيجابا أو سلبا- في كافة المجالات الحياتية، وإذا صلحت هذه التربية فقد أنتجت الأسرة مواطنا صالحا في معناه الأشمل والأعمّ، وإذا قصّرت أو فشلت في ذلك فقد ساهمت في خراب المجتمع.
دائما أقول لأولادي “خذوا مني ما ترونه جيّدا لتتقدموا.. واتركوا ما ترونه سلبيا لعله يعيقكم”، في اعتراف مطلق بأن الكمال قيمة ننشدها ونسعى إليها ولكننا لا نصلها أبدا، ولكنّ السعي إلى الكمال أمر محفّز للاستمرار بإيجابية.
فالقيم بأبعادها الاجتماعية والعملية تتجاوز مجرّد تلقين الأخلاق كأفكار مجرّدة، فمثلا لا يكفي أن نحترم الناس في وجودهم وحضورهم بل في غيابهم أيضا، وبذلك تصبح قيمة الاحترام ذات معنى وجدوى حقيقيين، فاحترام الناس يتجاوز مجرّد الذات إلى ما يتعلّق بها في محيطها الحياتي اليومي.
فالعمل قيمة أخلاقية سامية فقدت في عصرنا الحالي الكثير من بريقها بما أن العمال بالفكر والساعد أصبحوا يستهينون بأمرين، أولهما عدم الانضباط للمعايير الفنية والكيّة والمادية لتقديم الخدمة في أي مجال كان، وثانيهما عدم الالتزام بالزمن المخصّص أو المتفق عليه للإنجاز، وأحد مظاهر ذلك البيروقراطية وسوء العلاقات الاجتماعية. ولو أخذنا مثالا حيّا لذلك من مجال تنشط فيه المعاملات الاجتماعية والتجارية والاقتصادية وهو مجال أشغال البناء، فإننا سنجد أن زبائن هذا القطاع كثيرا ما يشتكون من أن هناك دائما تأخيرا في آجال التسليم، وأن هناك عدم مطابقة للمواصفات المطلوبة، وغير ذلك مما يعكّر صفو العلاقات بين مقدّم الخدمة ومتلقيها.
السؤال الأهم: ما الذي يتوجّب على الأسرة فعله، كونها الخلية الاجتماعية الأساسية، من أجل ترميم العقلية الانتهازية السائدة وشحنها بموجات أخلاقية جديدة تتصل بكل مجالات الحياة وحيثياتها؟
الوعي الأسري بماهية المنظومة الأخلاقية، في تكوّنها عبر التراكم، وفي مرجعياتها الدينية والحضارية المختلفة، وفي أدوارها ووظائفها الاجتماعية، من أهمّ الوسائل لنحت العقلية الاجتماعية الإيجابية والفاعلة. فالأكيد من هذا المنطلق أن العقلية التي يجب أن تتغيّر تشمل الكبار قبل الصغار، بما أن علم النفس وعلم الاجتماع يُرجعان الكثير من العادات والسلوكيات سواء كانت إيجابية أو سلبية إلى المحاكاة أي تقليد الصغار للكبار.
فمباشرة العملية التربوية تعني أن نتجاوز مجرّد التشدّق بشعارات تربوية أخلاقية ونستعرض في ذلك الأقوال المأثورة والآيات القرآنية وشواهد شعرية وأخرى نثرية، ونجعل هذه الشعارات أفعالا ملموسة تترجم ذاتها وفاعليتها ويتعلّم منها أطفالنا، فحفاظنا على مواعيدنا ووعودنا معهم يعلّمهم كيف يحترمون التزاماتهم في حياتهم المستقبلية، وحوارنا السلس البناء يعلّمهم كيف يتعايشون مع الآخرين في كنف الاحترام المتبادل حتى في حالات الاختلاف العميق، وإصرارنا على الصبر والتحدّي يعلّمهم كيف يكتسبون المناعة وقوة الشخصية عند مجابهة الأزمات مهما كانت حدّتها، وحسن تصرّفنا في الموارد المادية المتاحة للأسرة يعلّمهم الاقتصاد السليم.
فالأسرة إذن خزّان تربوي-أخلاقي لا بد من دعمه والإحاطة به ليؤدّي دوره الاجتماعي والحضاري على الوجه الأمل، ومن سُبل هذه الإحاطة الاعتناء بوضعية المرأة الأمّ خاصة إذا كانت غير عاملة خارج بيتها، وتكثيف البرامج الإعلامية التثقيفية، ومعاضدة الأُسر المحتاجة ماديّا ومعنويّا لنفسح لها المجال بأن تكون فاعلة.. ختاما الأخلاق عمل يومي مستمر وليست مجرد شعارات.
محمد خديمي