إبتهال قدور
ما أسهل اتهام الآخرعندما لاتسير الأمور كما نشتهي!
وماأسرعنا في ايجاد هذا الآخر إذا ما أردنا إبعاد أنفسنا عن مرمى التهم، وتبرئتها الى حد اللامسؤوليات، واللاأعباء، واللامهام …
ولاتنطوي قضية اتهام الآخر على بشاعة فقط – لكونها سلوك يتنافى مع المنظومة الأخلاقية الراقية- ولكنها إضافة الى ذلك تنطوي على خطورة من حيث قدرتها على التأسيس لثقافة “السلبية” القاتلة للمجتمعات، والتي يتفرع عنها التبرير للأخطاء، وتسويغ الركون الى الدعة وعدم الشعور بجدوى الرجوع الى النفس ومحاسبتها، في الوقت الذي يحتل مساحاتنا الذهنية “آخر” جاهز نلقي اليه بالتهم ونجعل منه مطية لتقصيرنا!!
ولم تعد هذه القضية متخفية، أو متطلبة لأصحاب النظر الثاقب، لأنها طفت على أسطح مختلف الأصعدة، وصار من الصعب عدم الالتفات اليها .
فعلى الصعيد السياسي، نلقي باللوم على الآخر المتآمر.. وعلى الصعيد الاقتصادي أيضا نجد ذلك الآخر المستغل.. وعلى الصعيد الثقافي يوجد دائما آخر مفسد..وعلى الصعيد الفني، أصبحنا نعتبر أي تعاون درامي بين دولتين، سبباً لتراجع الدراما في بلد آخر، فهو في أفضل حالاته لايعدو أن يكون صورة تآمرية!
ولكن هل اقتصرت الأمور على ماتم ذكره من مجالات؟ لا.. بما أن زحف هذا الوباء قد بلغ الأسرة!
وإذا كنا لانرى في الأمر غرابة، لإدراكنا بأن الأسرة هي خلية من خلايا المجتمع وامتداد لصياغته الثقافية.. فلا مفر إذاً من أن نرى في الأمر خطورة !
لأن الأسرة هي الحصن الدفاعي الأكثر أهمية، والأطول صموداً، وانتقال الأمراض الثقافية اليها يبعد عنا آمال العلاج السريع، بل يَعِد بتخريج أجيال تتبنى هذه الثقافات المريضة وتساهم في نشرها.
ويتيح لنا الاحتكاك بأرباب الأسر ورباتها، ملاحظة آثار هذه اللوثة الثقافية بجلاء، من خلال تتبع بعض العبارات الاستسلامية التي راحت تتردد على السنتهم، وتنعكس على سلوكياتهم اليائسة أمام تصرفات أبنائهم .. من هذه العبارات أنقل على سبيل المثال : “الجميع اليوم هكذا”  و “ماذا سنفعل ؟”  و “لافائدة “  و ” الجيل تغير عن الأجيال السابقة وأصبح جيلا عنيداً !”..وغيرها من العبارات التي تعبر عن فراغ الأيدي من أية حلول أو حيل!
قد يبدو أن لاشأن لهذه التصريحات العاجزة بما أسميته لوثة اتهام الآخر، ولكن ليس إن علمنا أن هذه التصريحات سيتبعها حالاً إلقاء المسؤولية على  “الآخر”!!
لأننا حين نجد أنفسنا على وشك تلقي التهمة الفعلية بالتقصير، نسارع - بذكاء - الى رسم لوحة براءتنا، لوحة تزينها ادعاءاتنا بشمولية المشكلة، وعمومها، وكونها عادت أمراً واقعاً لامفر منه، ثم نتوج هذه اللوحة بتوجيه الكثير من الاتهامات…للدولة ، للجهات المسؤولة ، للأعداء ، للمتآمرين …!!
واتهام المسؤولين والدولة،أو الأعداء والمتآمرين أو كل من سواهم – وبغض النظر عن حجم تورطهم- عاد وسيلتنا للهروب من محاسبة الذات، كما راح يشكل مخرج نجاة لنا - نحن الآباء والأمهات – نسلكه لنحمي  أنفسنا من عمليات جلد الذات، فيما لو تحركت لدينا الأحاسيس المؤلمة بالمسؤولية عن الخلل الثقافي الذي يصيب الأجيال.
وأسلوب الهروب هذا يضيع علينا فرصاً حقيقية لعلاج سليم لأنه يترك الأمور “عائمة” بدون رؤية واضحة، وبدون خطة علاجية جدية.
فلوحة البراءة الذاتية التي رسمناها، قد تتضمن متهمين آخرين يؤدون أدوار المفسدين أو المقصرين..ولكنها لاتتضمننا نحن، لاتتضمن أرباب الأسر!
وهذا الوضع نستطيع تصنيفه مأساويا بدون أن نتردد في ذلك..
لماذا ؟ لأن في هذا مؤشرعلى فراغ جعبة البيوت من حلول، مما يؤكد أننا أمام مأزق ثقافي حقيقي، وفي هذا إعلان صريح لاستسلام البيوت أمام طغيان فكرة “الشباب عاوزكده ” مما يعني إخلاء الساحة أمام انهيارات لامحدودة، هي قادمة بلا ريب!!
وحين ترفع هذه البيوت صك براءتها في وجه قائمة طويلة من المتهمين، هروباً من تحمل المسؤولية، فهذا يعني أنها غير مدركة لحقيقة دورها في العملية الثقافية، وغير واعية لحجم المسؤولية الملقاة على عاتقها،وغير راغبة في مواجهة صادقة تهدف الى وضع اليد على خطة علاجية عملية، قد تكلفها بعض العناء والتضحيات.
فهل لنا أن نتصور النتائج الرائعة لو أننا امتلكنا شجاعة وضع أنفسنا على محك النقد،واستطعنا أن نتحدث عما ارتكبناه ونرتكبه من أخطاء، وعما لم نكن نعرف أهميته ولم نحسن أداءه، ثم نبدأ بعد ذلك في علاجات فعلية مبنية على أسس علمية ؟!
خاصة ونحن نستحضر حقيقة أن البيت هو أول محضن للثقافة، وهوأول مسؤول عن الأحوال، وهو أول مراقب للتحركات والتغيرات، وهو أول ضابط  للسلوكيات والأفعال، وهو أول موجه للأفكار،وترتيبه الأول ذاك إنما يُحمّله المزيد من الأعباء والتبعات ويضعه في مقدمة المتهمين، إذا ماقررنا أن ننساق في حملة توجيه التهم !
فكيف يصح تبعاً لذلك أن نهمل دورنا الأساسي على امتداد السنوات الأكثر أهمية في عملية التنشئة، مأخوذين بمباهج الحياة أو مشاغلها، ثم نصحو فجأة ليلفت انتباهنا تفاقم المشكلة ، وعظم حجم المأساة، بينما تكون الأمور قد خرجت من أيدينا …؟!
ثم بدلاً من أن نعيد ترتيب الأوراق بروح المسؤولية، نروح نبحث لنا عن “آخر” نلقي إليه بتهم التقصير، ونزدري عجزه عن وضع حلول سحرية، مناسبة، تُصلح ماأفسدناه في بيوتنا!
في دول تتطلع الى تجسيد معاني الحريات، وفي عالم يسوده الانفتاح القسري على بعضه ، لم يعد من المجدي البحث عن متهم، لأننا باتخاذنا هذا المنحى سنجد أن القائمة ستطول الى حدود اللامحدود، فكل شيء وأي أحد قد يعتبر متهما من منظور معين!
اليوم …لم يعد يجدي هذا السلوك، الأكثر جدوى هو: توجه الآباء بإخلاص الى أبنائهم، والعمل على بناء ذواتهم بناءاً قوياً، يمكنهم من القدرة على الاختيار السليم، وتأسيس شخصياتهم تأسيساً يوازن بين الجوانب الفكرية والروحية والجسدية والاجتماعية لديهم. وتنمية قدراتهم التي تمكنهم من صياغة رسالتهم الحياتية، ووضع أهداف يحسنون العمل على تحقيقها، وشحذ إراداتهم التي تمكنهم من مواجهة تيارات الانحراف، و تأهيلهم علمياً بما يتماشى مع مواهبهم وتطلعاتهم…
كل ذلك في تعاون ايجابي مع الدولة، ومؤسساتها على اعتبارها الجهة القادرة على سن  القوانين، والمسؤولة عن تحديد المعالم الثقافية العامة لجيل منشود، وإتاحة الفرص أمامه لتلقي مايرسخها، من خلال قنوات عديدة كالمناهج الدراسية، والنوادي الرياضية، والمراكز الثقافية والدعوية، ووسائل الإعلام بأنواعها، إلخ ..
نعم في زمن الانفتاح اللامتعقل، واللامحدود، واللاإرادي، يجدربنا تغيير استراتيجياتنا، وأولى خطوات التغيير هي تغيير نمط تفكيرنا، الذي تمت برمجته على الهروب من الذات والتوجه الى حيث “الآخر” ..
لابديل أمام من قدر له أن يحمل رسالة الأبوة، أو الأمومة، في زمن الانفتاح الثقافي على الآخر، من أن يعمل ويعمل ليطور مهاراته، وقدراته، وأفكاره بحيث يتمكن من تخريج الانسان القادر على المواجهة.
وهذا مالن يستطيع أن يفعله كل الواقعون تحت تأثير لوثة “اتهام الآخر”، فهذه اللوثة ستستدرجهم الى خارج نطاق التشخيص السليم للمرض، وستجعلهم يتعثرون في مطبات عاطفية تؤدي دور المسكن الذي يسكت عويل الألم، لكنه يفسح المجال أمام غزو شامل لمرض مايلبث أن يحدث تدميراً شاملاً، يبتلع مجتمعاتنا، أو يتركها حطاماً.

 

الموقع الشخصي للكاتبة ابتهال قدور

JoomShaper