علي بن راشد المحري المهندي
نتسارع جميعًا في بِرِّ الوالدين في حياتهما لننال بركة دعواتهما ونفوز برضا الله تعالى نظير هذا البر بالوالدين، ولكن هناك مَن فقدوا الآباء والأمهات ولم يدركوا من حياتهم زمنًا طويلًا يُمكِّنهم من البِرِّ بهم والاستمتاع بالإحسان إليهم؛ فهؤلاء نريد أن نُذكِّرهم بأن البر والإحسان إلى والديهم لا ينتهي بالموت، وإنما يمكنهم بِرُّهُم بعد وفاتهم بطرقٍ كثيرة:
•أولها وأهمها: الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة؛ يقول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]
فهذا الدعاء للوالدين بعد وفاتهما من أعظم الحقوق للآباء على الأبناء بعد وفاتهم، وهذا ما أكدته ووضحته السنة النبوية في مواضع كثيرة؛ فقد دخل رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يَا رَسُولَ اللّهِ، هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ شَيْءٍ لِوَالِدَيَّ أَبِرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا" [أخرجه أبو داود].
فالدعاء للوالدين بعد الممات يرفع درجاتهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَّى لِي هَذِهِ؟! فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ" [صحيح رواه أحمد].
ويظهر بعد وفاة الوالدين دور الولد الصالح بشكل أكبر من حياتهما، فهو يتذكر والديه ويدعو لهما باستمرار بعد وفاتهما ويحرص على ذلك مع غيابهما عن الدنيا فهذا من أفضل البر بالوالدين على الحقيقة، فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف هذا الولد سواء كان ابنًا أو ابنة بالولد الصالح؛ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" [صحيح مسلم].
فبعد وفاة الوالدين يكون الولد الصالح امتدادًا لعملهما ورفعةً لدرجاتهما في الآخرة، والدعاء للوالدين بعد الممات دأب الأنبياء والصالحين؛ فقد جاء في القرآن الكريم دعاء نوح عليه السلام لوالديه، حيث قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].
وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]. فلنحرص على بِرِّ الوالدين بعد الممات بالدعاء تأسِّيًا بالأنبياء والصالحين.
•ومن طُرق بر الوالدين بعد الممات:
صلة الرحم التي لا توصل إلَّا بهما: فصلة الرحم واجبة في حد ذاتها، وتكون أوجبَ بعد وفاة الأصول كالأب والأم، وهذه الصلة تشمل الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والإخوة والأخوات. نحرص على صلتهم والإحسان إليهم، وانتقاء الكلمات الطيبة لهم، وزيارتهم باستمرار حتى لا تنقطع الرحم بعد وفاة الوالدين، وإنما تظل متصلةً؛ فننال بها أجر صلة الرحم وبر الوالدين بعد موتهما.
• ومن طرق البر بالوالدين بعد الممات:
إكرام صديقهما من بعدهما: فعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ" [رواه مسلم].
فكلٌّ من الآباء والأمهات يكون لديهم أصدقاء مقربون منهم في حياتهم، فمن عظيم البر بالآباء والأمهات صلة هؤلاء الأصدقاء بعد وفاة الوالدين؛ ففي حديث أبي بُردة رضي الله عنه قال: قَدِمتُ المدينةَ فأتاني عبدُ الله بنُ عمر رضي الله عنهما فقال: أتدري لِمَ أتيتُكَ؟ قلتُ: لا. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أحَبَّ أنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ؛ فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ" [أي: أصدقاء أبيه من بعد موته]، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاءٌ وَوُدٌّ، فأحببتُ أنْ أصِلَ ذاك. [رواه ابن حبان في صحيحه].
•من طرق البر بالوالدين بعد الممات أيضًا: الصدقةُ والوقفُ النافع لهما؛ فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدقة للوالدين بعد الممات، فقال رجل: يا رسول الله! إن أمي ماتت ولم تُوصِ، أفلها أجرٌ إن تصدَّقتُ عنها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ".
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ"، وفي رواية: "مَنْ تَرَكَ وَلَدًا يَدْعُو لَهُ" [رواه بن ماجه وصححه الألباني].
فيجب الحرص على إخراج صدقةٍ للوالدين بعد وفاتهما بشكلٍ شهري، أو المشاركة في وقفٍ خيري يعود أجره عليهما في قبرهما.
• ومن جميل صور البر بالوالدين:
ذِكر مناقبهم وأعمالهم الصالحة والمحافظة على سيرتهم الطيبة وذكراهم العطرة على ألسنة الجميع، ويتحقق ذلك بسلوك طريق الاستقامة والصلاح والمحافظة على الأخلاق الجميلة والخصال الحسنة، حتى نجعل الجميع يترحَّم على آبائنا وأمهاتنا عندما يرون أثر تربيتهم الصالحة في أبنائهم وبناتهم، ومن الأدلة على ذلك ما نسمعه باستمرار من أي شخص نُقدِّم له معروفًا أو مساعدةً أو معاملةً حسنةً يدعو لك بدعوةٍ جميلة صادقة فيقول: الله يرحم والديك. وهذا لم يأتِ من فراغٍ، فعندما يرى أي شخص فيكَ سِمةَ الخيرِ والصلاح يُثني على الوالدين؛ لأن هذا الولد الخلوق ثمرةُ تربيةٍ صالحةٍ من أبوين صالحين. فاللهم اجعلنا خيرَ خلف لخير سلف يا رب العالمين.
•فهذه تذكرة لكل مسلم ومسلمة:
مَن فاته الإحسانُ إلى والديه في حياتهما؛ فقد جعل الله تعالى لك ذلك بعد موتهما، سواء كان ذلك بالصدقة عليهما، أو بالاستغفار لهما، أو الدعاء، أو قضاء الديون، والنذور، والكفارات، أو إنفاذ عهدهما من بعدهما، أو صلة الرحم التي لا توصل إلَّا بهما، أو صلة أهل وُدِّهما، أو بالاعترافِ بفضلهما، والثناء عليهما، وغير ذلك من أنواع البر والإحسان إليهما. واحرص على زيارة قبورهم والدعاء الكثير لهم؛
يقول ابن الجوزي:
زُر والِديكَ وقِف على قبريهما *** فكأنني بك قد نُقلتَ إليهما
لو كنتَ حيث هما وكانا بالبقا * زاراكَ حبْوًا لا على قدميهما
• دعاء:
اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا الذين توفاهم الله، اللهم ارحمهم برحمتك التي وسعت كل شيء، وارزقهم الفردوس الأعلى من الجنة، واجمعنا بهم سعداء يا رب العالمين بعد عمر طويل على طاعة الله وحسن العمل. واجعلنا وجميع المسلمين والمسلمات من الصالحين البارين بالوالدين في الحياة وبعد الممات اللهم آمين.