بلقيس الكثيري
في غابر الزمان أوصت أمامة بنت الحارث ابنتها أمَّ إياس عند زواجها بوصية، تناقلتها الأجيال بعد ذلك، وما زالت تدرَّس في مدارسنا إلى يومنا هذا؛ لأن الكلمة المحمَّلة بالفصاحة والحكمة وسداد الرأي تبقى وإن رحل صاحبها ... وكذا رحلت جدتي رحمها الله، وبقي لكلماتها صدًى أراه في حيوات كل مَن كنَّ تحت رعايتها، وسمعْنَ وصيتها فأطعْنَ، وقد جمعت هنا خلاصة ما قيل وما سمعت:
إنكِ يا ابنتي مقبلةٌ على حياة غير ما اعتدتِ من حياة، وستتقلدين منصبًا عظيمًا هو خير ما تتقلده النساء، منصب الزوجة وربَّة البيت، شريكة النجاحات العظيمة التي ينجزها زوجكِ وأبناؤكِ من بعد، يجهلكِ الناس ويعرفكِ الله، ثم أنتِ ربة الأبناء، تربِّين وترسِّخين القيم وتُنشئين جيلًا يقتفي أثرَ من قبله من هداة ومصلحين.
اعلمي أنكِ مذْ تدخلين بيته، فإن أهلَه أهلُكِ، يصيبكِ ما أصابهم، ويسرُّكِ ما سرَّهم؛ فاحفظي ودَّهم، وأديمي وصلهم، وتجاوزي عمن أساء منهم، وأحسني إليهم؛ فإن الله يحب المحسنين.
واحفظي كرامة البيت الذي تدخلينه، فلا تفشي أسراره ولا تنقلي أخباره.
اعلمي أن بوسع الرجل أن يدير مجموعة كبيرة من الناس، ولكنه قد يخفق في إدارة خلاف بين النساء؛ فكوني من الحكمة بمكانٍ؛ فلا تُشْرِكيه في مثل هذا الخلاف.
وحذارِ أن يكون لكِ يدٌ في خلاف ينشأ بينه وبين إخوانه؛ فإن لم تكوني ماءً يطفئ نار الخلاف، فإياك أن تكوني الوقود الذي يذكيها، وحذارِ أن توغري صدره على أهله أو إخوته أبدًا؛ فإنما ذلك من فعل الشيطان.
وإذا كنتِ معه أمام أهلكِ أو أهله، فلا تسبقيه بالقول والرأي، ولا تخطِّئيه في ملأ، ولا تعقدي بينه وبين غيره أدنى مقارنة، بل انظري له بمنزلة القمر في الليلة الظلماء، تشع حوله النجوم لكن هيهات أن تضاهيه.
وتفقَّدي مواطن بصره وسمعه وحواسه، فلا يرى منك إلا جميلًا، ولا يسمع منك إلا حسنًا، واجعلي له من تبسمكِ وافرَ النصيب، واعلمي أن الحسن عندنا في ثلاثة: في عينيكِ فأكحليهما، وفي شعركِ فطوليه، وفي لسانكِ فحلِّيه، ثم اعلمي أن لا حسنَ يكافئ حسن الخلق، يبلى الأول، ويدوم الأخير.
وإن لكِ بيتًا فالزميه، ولا تخرجي منه إلا وقد علِم ذهابكِ وإيابكِ، فإن قوام بيتكِ اهتمامُكِ به، وإعماره بطاعته، وفي عصيانكِ خرابه، واعلمي أن الغضب نارٌ يزيد اشتعالها إذا تخاصم الخصمان فأبى كلاهما أن يصمت، وخير ما تمتصين به غضبه أن تسكتي.
وإن مال إلى صمت فأوجزي، وإن كان في شغل فلا تُثقِلي، ولا تبوحي بسرٍّ كاشَفَكِ به، وإن كان في البوح به نجاتكِ، وإن استطعتِ ألَّا تنامي حتى ينام، فافعلي ... وتخيري من الكلام أحسنه، ومن اللفظ أجمله، ولو كنتِ شاكيةً أو معاتبةً، ولا يعلو صوتكِ صوته أبدًا.
ولا تتمادي في الخصام إن اعتذر، واسهري على راحته إذا مرض، كوني له ممرضة ومشفًى ودواء، وعامليه معاملة الأم الرؤوم، فكم من حب واهتمام إذا وقع على الجرح برأ!
وإن لمست منه حيادًا عن أمور الدين، وخروجًا عن الصراط، فكوني له خيرَ مذكِّرٍ، ولا تخوني العهد وتتواني عن النصح، وتبصري اعوجاجه ولا تقوميه.
وإن دعاكِ لأمرٍ من أمور الدنيا فيه مخالفتي وفيه رضاه، فخالفيني ولا تبتئسي، واحذري أن تتكالبي عليه تكالب الظروف، كوني له حلًّا في وجه كل المشكلات، وهوِّني عليه مصائب الدنيا؛ لأنكِ إذا هوَّنتِها هانت.
وإن دار به الزمان وقلَّ دخله، فلا تجحدي فضله ولا تشتكي القلة، وأعظمي كسرة الخبز إذا اقتسمها معكِ، كوني له السند والمعين حتى يشتد عوده، ثم لا تتفضلي، واعلمي أن صدق الود لا يُختبَر في حياة الدَّعَةِ، وإنما في مواقف الشدة، أما في الرخاء، فالكل يتغنى بقيس وليلى.
ولا تحسبي أنني بوصيتي هذه أشق عليكِ، وأهضم حقكِ، وأعطي له نصيبًا من الحياة دونكِ، ولكن هذا ضمان الجنة الذي أُعطيناه نحن النساء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)).
إنني يا ابنتي - برغم أمِّيَّتي وجهلي - مذ طرق هذا الحديث مسمعي، آثرته واكتفيت به عن كل عمل؛ بغيةَ أن أقول: أي ربي، قد صليت خمسي، وصمت شهري، وأطعت بعلي كأبلغ ما تكون الطاعة؛ فأدخلني جنتك.