فريق العمل
يرتكب الآباء الجيدون الأخطاء عن غير عمد، لا يتوقف دافعهم للمحاولة وتصحيح الأمور، يشفع لهم رصيد من الاعتناء والمحبة، وتمر أخطاؤهم دون ترك ندبة على قلب صغيرهم. لكن الآباء السامون فقد وصفهم تقرير «مركز المشورة والخدمات النفسية» بجامعة براون الأمريكية، بأنهم خبراء في التصرف بطرق تشعر أبناءهم بالذنب أو الخوف أو الاضطرار، وتتبع أفعالهم نمطًا سلوكيًا ثابتًا من الإساءة، فيهتمون باحتياجاتهم الخاصة أكثر من اهتمامهم بما إذا كان ما يفعلونه مؤذيًا، وقد لا تكون الإساءة دائمًا بالضرب أو الصراخ أو التهديد الواضح، فللإساءات الخفية أثر لا يزول.


لا يتناول هذا التقرير الآباء والأمهات الذين بذلوا ما بوسعهم في الرعاية والاعتناء بأولادهم، ولا الآباء والأمهات الواعين لأخطائهم ويتفادون تكرارها، بل يستهدف أولئك الآباء الذين يعيدون مع أبنائهم المآسي التي تعرضوا لها في طفولتهم، فيمتنعون عن تقديم أبسط معاني المحبة، ويتركون طفلهم ليسأل نفسه: «وماذا عني؟ هل تراني؟».
«أبي الذي أكره»: سجون ناعمة من الإساءة باسم التربية
قدم عماد رشاد عثمان في كتابه «أبي الذي أكره: تأملات حول التعافي من إساءات الأبوين وصدمات النشأة» تربيته على كتف نفوس تعاني منذ الطفولة، دون أن يدركوا أن لهم الحق في الألم والوجع. الكتاب الصادر عن دار «الرواق» للنشر والتوزيع، عام 2020، كان بمثابة محفز للذكريات المؤذية لدى كثير من الآباء الحاليين، ممن يخشون تكرار مأساة طفولتهم مع أطفالهم، عن طريق روايته لقصص موجزة توضح كل منها وجهًا من أوجه الإساءة الجسدية أو النفسية للآباء السامين، ليؤكد – على مدى فصول الكتاب الخمسة – ضرورة البوح، بوصفها أول خطوة للخروج من زنزانة الطفولة.
1- زنزانة «الرجولة الزائفة»
يدمر بعض الآباء أبناءهم قبل أن تدمرهم قسوة المجتمع، يبنون لهم زنازين باسم الانضباط والمصلحة، يظنون أنهم بصفعاتهم غير المتوقعة على الوجوه يؤهلون أبناءهم لعالم قاس، ولا يدرون أن أحضانهم هي التي ستؤهلهم. يحيا الابن داخل ذلك السجن في حالة تأهب قصوى، وتهديد دائم، من ردات فعل عنيفة لا تتناسب مع جرمه، ويظن الأب بهذا أنه ينشئ رجلًا خشنًا، لكنه يصير طفلًا خائفًا مختبئًا خلف قشرة رجولة ظاهرية.
2- زنزانة «الاغتراب»
يحصر بعض الآباء أنفسهم في دور الباحث عن المال من أجل حياة كريمة لأبنائهم، فيطول سفره، ويحل ضيفًا على البيت في العطلات السنوية، غريب يعبر بحياة أبنائه، يتجهزون له بأحسن الثياب وأحسن الأخلاق، حتى يرحل ثانية.
بغياب الأب يفتقد الأبناء فرصتهم للنمو، وتكوين الشخصية، واستيعاب الأدوار داخل الأسرة؛ الأم محبطة لافتقاد زوجها، مهووسة بسيطرتها على حياة الأبناء، خوفًا من الفشل في تحمل المسؤولية وحدها، والأبناء يترقون لمقام الزوج بمسؤولياته، وليس كأطفال في طور النمو.
3- زنزانة «الكمال»
لا ينفك بعض الآباء والأمهات عن تتبع نواقص وعيوب أبنائهم، ويظنون أنهم يحفزونهم بذلك لبذل مزيد من الجهد، فيقارنوهم بالأصدقاء والأقارب، ويسألون عن الدرجات الناقصة لا المجموع المحقق، ولا يدركون أنهم بذلك يعمقون مشاعر الدونية بنفوس أولادهم، ولن يسعوا لتحقيق شيء في المستقبل، لأن كل ما سيفعلونه سيظل ناقصًا لا يرضي أحدًا.
4- زنزانة «الإساءات الجنسية»
تتمثل الإساءة الجنسية ضد الابن بالتحرش المباشر بجسده، أو باللفظ، أو مجرد النظر، وقد يحدث ذلك باستعراض الجسد العاري أمامه، وعدم الاكتراث بخصوصية العلاقة الجنسية بين الأبوين، وحصر الأبناء بين وصمة العورة ووصمة القبح، ولومهم إذا ما تعرى جزء منهم ذات غفلة.
تتعدى الإساءة الجنسية للأبناء تلك الحدود، وتمتد إلى إخضاع الإناث لعمليات الختان، وردود أفعال الأهل المتخاذلة بعد رواية أطفالهم لقصة تعرضهم للتحرش، والتشكيك بروايتهم، أو تحميلهم مسؤولية ما تعرضوا له، وأمرهم بكتمان السر خشية من الفضيحة، وكل ذلك بدوره أن يعمق مشاعر الخزي والعار تجاه الذات.
5- زنزانة «الكآبة»
قد لا يسيء الآباء والأمهات لأبنائهم بشكل مباشر، لكن سلوكياتهم تحمل في طياتها رد فعل على الألم والمعاناة التي يواجهونها في حيواتهم، مما يجعلهم شديدي التجهم والكآبة في وجوه أبنائهم.
لا يستوعب الأبناء ما يمر به الكبار، وإذا رأوا أبًا كئيبًا، وأمًّا لا تغادر الدموع عيونها، سيدمنون الحزن بدورهم، ويعتقدون أن لا مساحة لمشاعرهم، وأنهم ثقل على أكتاف الآخرين، وسيكبرون وهم لا يتمنون الكثير من الحياة، ولا يتقنون التعامل مع المشاعر الإيجابية كالفرح والامتنان، ويعجزون عن صياغة انفعالاتهم، فيما يسمى بـ«الأمية الانفعالية»، وكأن مشاعرهم تتحدث لغة أخرى لا يمكنهم فهمها والتعبير عنها.
كيف تكتشف بصمة إساءة الطفولة البائسة على حياتك؟
نشر مركز الاستشارات النفسية، بجامعة إلينوي الأمريكية، كتيبًا بعنوان «فهم أنماط العلاقات غير الصحية في عائلتك» يشرح أثر الإساءة المنسية، فيكافح الأبناء الذين تعرضوا لسوء المعاملة والإهمال في الصغر للتكيف مع ماضيهم، بإنكاره، والتشكيك في رؤيتهم للأحداث، فيخلقون صورًا سلبية عن ذواتهم، ويفقدون الثقة في الآخرين، وفي أفعالهم الخاصة، وأحكامهم على الأمور، ومشاعرهم القلقة.
فلم يكن من الغريب ما أثبتته الدراسات على «نظرية التعلق»، وكيفية استمرار الأذى لما بعد سن البلوغ، من احتمالية مواجهة الأبناء المعنفين مشاكل في عملهم، وعلاقاتهم، وهوياتهم، ومع ذلك من الصعب الاعتراف بأنهم كانوا ضحايا لآباء سامين، حتى تصدمهم الذكرى ثانية مع إنجاب الطفل الأول، ويحين موعد مواجهتها بالهروب، أو تكرار المأساة، أو قرار التعافي.
عرض الكتيب طريقة للمس أثر ندبتك القديمة، بإلقاء نظرة على الشخص الذي أصبحت عليه، وسؤال نفسك: هل قال لي والديّ أنني عديم القيمة؟ هل أساءوا إلي جسديًا تحت شعار الانضباط؟ هل كنت خائفًا من والديّ أو من أفعالهما؟ هل كنت أخشى أن أظهر لهما غضبي أو حزني؟ هل يعاملني والدايّ كما لو أنني ما زلت طفلاً؟ هل استخدموا التهديدات أو إستراتيجيات التلاعب الأخرى، مثل منح أو منع الأموال عني؟ هل أشعر بردة فعل جسدية أو عاطفية بعد رؤيتهم؟ هل أشعر أنني لن أرتقي إلى مستوى توقعات والديّ؟
إذا أجبت بنعم على أي من هذه الأسئلة أو جميعها، فمن المحتمل أن يتسلل الأذى إلى أطفالك.
تُرجع الاستشارية النفسية سوزان فورورد سبب ذلك في كتابها «الآباء السامون: التغلب على إرثهم المؤلم واستعادة حياتك» إلى أن الأبوة والأمومة لا يتعلقان فقط بالطفل الحالي فقط، بل بالطفل الذي كنا عليه من قبل، وكافة التجارب التي عايشناها خلال مراحل النمو، ولتصبح أبًا فعالًا في حياة أطفالك، أو تصبحين أمًا محبة، فأول خطوة هي معرفة سبب قلقك من ألا تصبح كذلك.
آباء اليوم غير المشبعين عاطفيًّا وكيفية الشفاء من ماضٍ مضطرب
في بعض الأحيان تستمر أنماط الأسرة غير الصحية عبر الأجيال، لأننا ننتظر من شخص ما أن يمنحنا الإذن للتغيير، ومع ذلك، فإن الإذن بالتغيير لن يصدره سوانا. غالبًا ما سيشعر الأجداد في العائلات المفككة بالتهديد من التغييرات التي تطرأ على طرق التربية المعتادة، في بعض الأحيان قد ينتقدون جهودك للتغيير، ويصرون على التدخل في تربية الأحفاد، لكن من الضروري أن تثق في تصوراتك ومشاعرك خلال عملية التعافي من أنماط الأسرة غير الصحية، والتي عرض مركز الاستشارات النفسية، بجامعة إلينوي الأمريكية خطواتها، لبناء سلامك النفسي:
1- بمجرد أن تدرك أنك تعرضت إلى الإساءة، قد يكون من المفيد إدراك أن العديد من المعايير التي فرضها عليك والديك خاطئة، وأن التجارب السيئة التي مررت بها ليست طبيعية، والضرب لم يكن مجرد صفعة للتأديب، وانشغال والديك عنك لم يكن في صالحك. سيشعرك ذلك بالخسارة العميقة والحزن، لكنك ستسامح نفسك أيضًا.
2- حدد التجارب المؤلمة وأوجه الإساءة التي حدثت خلال طفولتك ولا تنوي تكرارها مع أطفالك. ضع قائمة بسلوكياتك وأفكارك وكل ما ترغب في تغييره، ليقابل كل عنصر السلوك أو المعتقد البديل. اختر العنصر الأسهل أولاً، ولا تبدأ في العنصر التالي في القائمة إلا بعد أن تلمس التغيير الإيجابي لصالح السلوك الأول.
3- توقف عن محاولة أن تكون مثاليًا، وأن تجعل عائلتك مثالية، واعلم أن الأب المثالي حقًا هو الأب السعيد، وليس من يعاقب نفسه على تقصيره في تلبية احتياجات غير حاسمة في حياة طفله، ويتجاهل مجمل إنجازاته، فلا يتعلم الأطفال من الطريقة التي نتعامل بها معهم فقط، ولكن أيضًا من الطريقة التي نعامل بها أنفسنا.
4- لا تحاول الفوز بالصراعات القديمة، أو ربط قرار التخلص من الإساءة باعتذار والديك وحلمك بتغييرهم لشخصيات عطوفة ومحبة، فأنت لا تملك حياة الآخرين وقرارهم، ولن ينتج عن ذلك سوى عدم قدرتك على التخلص من الإساءة.
5- ضع حدودًا واضحة لحياتك الأسرية ونمط تربيتك لأطفالك، وارفض الدعوات والتدخلات في شؤونك، واستعد لردود فعل قوية عندما تتوقف عن التصرف بالطريقة التي اعتدت عليها معهم، وقرر كيف ستستجيب لابتزازهم العاطفي وأوجه الإساءة.
6- استجب لاحتياجاتك العاطفية كما تستجيب لاحتياجات أطفالك، فإذا كنت تمنحهم الأمان بتقبلهم والعطف عليهم، فأنت أيضًا تحتاج لمن يسمعك ويتقبلك كما أنت، والشعور بالأمان وسط شبكة أصدقاء داعمة، وقد تجد أنه من المفيد مشاركة خطواتك مع مجموعة من الأشخاص ذوي الخبرات المتشابهة، أو مع طبيبك النفسي.

JoomShaper