دمشق-طارق علي
"لا يمكن القول إنني هاجرت فقط لأنني لم أستطع الزواج، الموضوع أكبر من ذلك بكثير، أنا هاجرت لأنني لم أعد أستطيع تأمين قوت يومي، فكيف سأتزوج إذاً، من أين سأنفق عليها، ثم ماذا لو أنجبنا أولاداً؟ من سيتولى إطعامهم؟ لا لا، الزواج ليس سهلاً في سوريا، رغم كل الضغوط العائلية، ولكن تأمين مستقبلي ثم التفكير في الزواج هو الأمر المنطقي"، يقول أحمد صافية (31 عاماً) لـ"النهار العربي"، وهو الذي اختار الهجرة غير الشرعية إلى ألمانيا من جملة من هاجر من سوريين يئسوا من إمكان تأمين مستقبلهم وتحقيق عيش كريم في بلد نهشته الحرب وشرّدت أهله في دول اللجوء، أما أولئك الذين لم تهجرهم فيذوقون اليوم ويلات ما بعد الحرب، أولاها وأصعبها الفقر المدقع.


هل الوضع بهذا السّوء؟
قد يسأل سائل هل يعقل أنّ الوضع سيئ لهذه الدرجة؟ الإجابة واضحة ومركبة في آن، فالوضع حقيقةً سيئ في بلد يحظر عليه استيراد كل شيء، فيكفي انتظار رسالة الغاز المنزلي تسعين يوماً، والانتظار على أبواب محطات الوقود، وانعدام فرص العمل، وتدني الأجور، وفوق كل ذلك يمكن الإجابة عن هذا السؤال بالجلوس مع أي سوريٍّ، ليعتري السائل يأس عميق.
في المقابل، ثمة سوريون يشعر السائل حين الجلوس معهم بأنّه في الجنة، فمن الطبيعي لشخص لم ينتظر لحظة على الأبواب والأفران للحصول على مخصصاته ألّا يشعر بالفقر الذي يملأ بلده، أمراء الحرب وأعوانهم وزبانيتهم والمكتنزون وأصحاب الإثراء غير المشروع.. هؤلاء فقط تعجبهم الحال وزقزقة العصافير في الصباح، هؤلاء يقاسمون الفقراء في كل شيء إلا الفقر والحاجة، ولأنّ الحديث هنا عن الزواج في سوريا، فلا بدّ من القول إنّ هذه الشريحة من الأمراء نظموا أعراساً لأولادهم، كلفت أحياناً مئات آلاف الدولارات، أما الفقراء فلماذا سيتزوجون؟
في منطق الأرقام
أجرى أحد المواقع السورية أخيراً "انفو غراف" إحصاءً حول تكاليف الزواج هذه الأيام، وخلص الموقع إلى أنّ ثمن خواتم الزواج من عيار 18 قيراطاً سيكون سعره مليوناً ونصف مليون ليرة سورية، وحجز صالة أفراح في إحدى الضواحي تتسع لـ75 شخصاً سيكلف 630 ألف ليرة سورية، أما الأثاث كغرفة معيشة من دون تلفاز وغرفة نوم متوسطة الجودة فسيكون ثمنه مليونين ومئة وخمسين ألفاً، وبراد مع بعض مستلزمات المطبخ ثمنه مليون و680 ألفاً، وغسالة مستعملة مع فرن مستعمل نحو مليون و300 ألف، وملابس العرس للطرفين حوالي مئتين وستين ألفاً، ليكون المجموع الكلي سبعة ملايين وخمسمئة ألف ليرة.
ورغم أنّ الرقم النهائي يبدو باهظاً قياساً بالدخل السوري، إلا أنّ "النهار العربي" بدوره أجرى حسبة اقتصادية مستندة إلى الحديث مع بعض المتزوجين حديثاً، وكذلك إلى محال بيع مستلزمات المنزل وغيره من تحضيرات العرس.
اختصاراً لتفصيل المبلغ، فإنّ الرقم وصل حدود عشرة ملايين ليرة سورية، في عرس يعتبر متوسط الحال، ويشمل ضمناً إيجار منزل المعيشة الذي سيكون بحده الأدنى مئتي ألف سورية في أرياف دمشق على سبيل المثال، مع اشتراط المؤجر كما درجت العادة في عقود التأجير، أن يكون الدفع لستة أشهر سلفاً. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه إذا اعتبرنا أنّ متوسط راتب الموظف في سوريا 70 ألف ليرة شهرياً، فإنه سيحتاج 12 عاماً بالتمام إذا لم يصرف أي ليرة من راتبه خلالها، ليتمكن من الزواج، أو بدقة ليتمكن من تأمين مصايف الزواج، من دون الحديث عن مصاريف ما بعد الزواج والأطفال.
على الخبزة والزّيتونة
"سأعيش معه على الخبزة والزيتونة، عاندت أهلي لأتزوجه، فنحن تربطنا علاقة حب استمرت ثلاثة أعوام، ومعاً بنينا أحلامنا ومستقبلنا، وسلفاً كنت أعرف وضعه المادي، الذي هو وضع معظم الناس، وبأنّه لا يملك المال، ودخله قليل، ولكنني أنا أيضاً موظفة، وكنا نعمل بعد الزواج على إسناد نفسينا من دون إنجاب أطفال، ولكن فجأة في العامين الماضيين انقلب الوضع جذرياً في البلد، وبات كل ما حلمنا بتحقيقه مجرد أحلام وأوهام، ولكنني غير نادمة، فالحب هو الحب"، تقول ميساء خلف لـ"النهار العربي"، وهي التي تزوجت من أحمد قبل أربعة أعوام بعد ثلاث سنوات من الحب، ويبدو أنّه في ظل الواقع الحالي، ستظل تعيش على الخبزة والزيتونة، من دون أن تملك حتى الآن في منزلها فرناً أو غسالة "أوتوماتيك".
إحجام عن الزّواج
يقول علاء الحافظ الذي بلغ من العمر 35 عاماً لـ"النهار العربي" إنّه محجم عن الزواج ما دامت الأوضاع هكذا، "من أين سآتي بمصاريف الزواج؟ نعم يمكن التحايل قليلاً وعدم إقامة حفلة، ولكن يظل تأمين المهر وأثاث المنزل واستئجاره، صحيح أنني بلغت هذا العمر وبات من الضروري الزواج، ولكن إذا ما تيسر كل شيء وتزوجت، من أين سأصرف على زوجتي وأطفالي؟".
كثيرٌ ممن التقاهم "النهار العربي"، وبدقة معظمهم، يشاطر علاء رأيه بالتفصيل، وكأنّ ثمة تنسيقاً مسبقاً للرأي نفسه بين جميع من هم في فئة الشباب، وهذا ما يفسر ارتفاع نسبة العنوسة حتى مستويات غير مسبوقة، وما يبرر بمجموعه حلم كثيرين بالسفر، حقيقةً لقد سافر كثيرون فعلاً.
ولكن على المقلب الآخر، هناك من عمل مطولاً لسنوات خلت لتأمين منزل للزوجية، بعضهم من ورث بيتاً صغيراً من أهله، وآخر يعمل في منظمات، وثالث لَحِقَ نفسه قبل جنون الأسعار، ولكن المشترك بينهم أيضاً كما هو المشترك بين كل الأسر السورية أنّ الجميع وبلا استثناء يحتاج أضعاف وأضعاف ما يجنيه ليعيش.. ليعيش بقليل من الكرامة..

JoomShaper