عصام محمد فهيم جمعة
عالج الشرع الحنيف بوادر الخلاف بين الزوجين بداية من حصول النفرة والكره وانتهاءً بالطلاق، فقد يكون في طباع المرأة ما يكره أو في تصرفاتها ما يعاب، ولكن التشريع طلب من الرجل أن يصبر على ما يكره منها، فقال سبحانه: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، قال الجصاص في أحكام القرآن: (وذلك يدل على أنه مندوب إلى إمساكها مع كراهته لها، وأخبر الله تعالى أن الخيرة ربما كانت لنا في الصبر على ما نكره)[1].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَفرَك مؤمنٌ مؤمنة، إن كرِه منها خلقًا رضِي منها آخر)[2]، والآية والحديث يوضحان أن الإسلام يضيِّق على الرجل مسالك الطلاق حتى فيما يكره من أخلاق زوجته، فإذا استمر الكره وزاد الخلاف، تحوَّل إلى النشوز، وهي المرحلة الثانية التي تأتي بعد مرحلة الكره، وهي حالة من النفور تعتري الزوج أو الزوجة.


أولًا: تعريف النشوز:
1- النشوز لغة: أصله الارتفاع، قال ابن فارس: (النون والشين والزاء: أصلٌ صحيحٌ يدل على ارتفاع وعُلوٍّ، والنشزُ: المكان العالي المرتفع، والنشزُ والنُّشوزُ: الارتفاع][3].
وقال ابن منظور: (النشْزُ والنشَزُ: المتن المرتفع من الأرض، ونشز الشيء ينشزُ نشوزًا: ارتفع، ودابة نشيزة: إذا لم يكد يستقرُ الراكب والرَّجُ على ظهرها)[4]، فمن خلال ما ورد في المعاجم اللغوية، فإن النشوز معناه الأصلي [الارتفاع والعلو].
2- النشوز اصطلاحًا: يلتقي النشوز في المعنى الاصطلاحي مع المعنى اللغوي في تحقيق معنى العلو والارتفاع عن الأصل الذي يحب أن يكون عليه الزوجان، وردت عدة تعريفات للنشور منها تعريف: الراغب الأصفهاني: (ونشوز المرأة بُغضها لزوجها، ورفْع نفسها عن طاعته، وعيُها عنه إلى غيره)[5].
• قال الدَّامغاني: (والنشوز: عصيان المرأة على زوجها، وإيتاء الرجل على زوجته غيرها من النساء)[6].
• وقال ابن تيمية في تعريف نشوز المرأة: (هو أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه، بحيث لا تطيعُه إذا دعاها للفراش، أو تخرج من منزله بغير إذنه، ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجبُ عليها من طاعته)[7].
• ومن خلال ما سبق يُمكن أن تستخلص تعريفًا لظاهرة النشوز دون الخوض في التفاصيل لكثرتها: (النشوز: ارتفاع الشريك في الحياة الزوجية عما أوجب الله عليه في حق شريكه)، وهذا التعريف ينطبق على الزوج والزوجة، ويُبين حقيقة النشوز، وأنه الارتفاع عن الواجبات.
ثانيًا: صور النشوز وهي كثيرة ومتعددة:
من أهم صور نشوز الزوجة:
• الخروج عن طاعة الله في الواجبات الشرعية.
• إظهار الاستخفاف بالزوج أو سبُّه وشَتْمُه.
• منعه من الجماع والمباشرة بدون عذرٍ مشروع.
• السفر بدون إذنه وكذلك العمل بدون إذنه.
• الخروج من البيت بدون إذنه.
• الامتناع عن السكن مع الزوج بدون عذر مشروع.
• الميل إلى رجل غيره.
ومن أهم صور نشوز الزوج:
• إيذاء الزوجة بالضرب.
• السب والشتم والإهانة.
• عدم النفقة عليها.
• الميل إلى غيرها وعدم العدل[8].
ثالثًا: أسباب النشوز:
ظاهرة النشوز لها أسباب نفسية واجتماعية متعددة، ومن هذه الأسباب التي ترجع إلى الزوجين:
• دفع ضريبة سوء الاختيار من جانب الطرفين.
• تدخل الأهل في الحياة الزوجية.• عدم التوافق الجنسي بين الزوجين.
• الغيرة الزائدة من الزوجين، وما ينجم عن ذلك من المراقبة وسوء الظن.
• صراع الضرائر وما يفتحه من محاولات النشوز.
• ميل الزوج إلى بعض نسائه لمالها أو صِغر سنِّها، أو حسن عشرتها[9].
رابعًا: نشوز الزوجة وكيف عالجه التشريع الإسلامي:
إذا نشزت الزوجة غدت صعبة القياد على زوجها، وتنكَّرت لحقه، وقد دعا التشريع الإسلامي عند ظهور بوادر النشوز من الزوجة إلى تفصيل جملة من الأساليب لإصلاح الحال، وإعادة جو الحياة الزوجية إلى الاستقرار والعشرة الطيبة، واتباع هذه الخطوات التي أرشد إليها القرآن، كفيلة برأْب الصدع ولَمِّ الشمل، والحفاظ على رابطة الزوجية من خطر الانهيار والتصدع؛ قال تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34]، فقد أسند التشريع الإسلامي القوامة في الأسرة للزوج، وهذه القوامة والدرجة ليست للتشريف، وإنما هي للتكليف، فهي تعني المسؤولية والإتقان، وزيادة درجة الرجل، فبفعله وقوته وقدرته على الإنفاق، وبالدية، والميراث، والجهاد[10].
وبيَّن الإسلام أن النساء أمام قوامة الرجال عليهنَّ صنفان، نساء صالحات مطيعات، ونساء عاصيات متمردات، فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج، حافظات لأوامر الله، قائمات عليهنَّ تفي حقوقه، بحفظ أنفسهن من الفاحشة وأموال أزواجهن عن التبذير وهن خير النساء، وفي مسند أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النساء التي إذا نظرت إليها سرَّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفِظتك في نفسها ومالها»، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «ألا أخبرك بخير ما يَكنزه المرء: المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته»[11].
وأما النساء الناشزات المتمردات المترفعات على أزواجهن، اللواتي يتكبَّرن ويتعالينَ على طاعة الأزواج، فقد قال فيهن الله تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34].
قال ابن عاشور: (مقصود منه الترتيب كما يقتضيه ترتيب ذكرها، مع ظهور أنه لا يراد الجمع بين الثلاثة)[12].
وفي كلامه أن الزوج مأمور بأن يعالج ما طرأ على زوجته من النشوز بالموعظة والتذكير أولًا، فإن لم ينفع ذلك انتقل إلى الوسيلة الثانية وهي الهجر في المضجع، فإن استمرت على نشوزها ولم تُقلع، فله أن يلجأ إلى الضرب وسيلةً نهائية، وليس له أن يجمع أو يخلط بين الوعظ والهجر والضرب من مرحلة واحدة، بل عليه الترتيب كما نصَّت الآية[13].
وقال ابن العربي: من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير، فقد قال: «يعظها، فإن هي قبِلت وإلا هجَرها، فإن هي قبِلت وإلا ضرَبها، فإن هي قبِلت وإلا بعث حَكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع»[14].
1- الوعظ والإرشاد:
والوعظ في اللغة معناه النصح والتذكير بالخير فيما يرق له القلب، وقد يكون فيه زجر مقترن بتخويف[15].
فعلى الزوج أن يعظها بالرفق واللين ﴿ فعِظهوهنَّ ﴾؛ أي ذكِّروهن بما أوجب الله عليهنَّ من حسن الصحبة وجميل العشرة، والاعتراف بالدرجة التي له عليها، ويجب أن يكون في وعظه كيِّسًا فطنًا طويل الأَناةِ، ينصح مرة ومرات على فترات متقاربة أو متباعدة على حسب الظروف، فإن ذلك جديرٌ أن يُلَيِّنَ مِن حِدَّتها، ويردها إلى سبيل الرشاد[16].
2- الهجر في المضجع:
حين لا تجدي وسيلة الموعظة في الزوجة شيئًا، ينتقل الزوج إلى إجراء آخر فيه معنى العقوبة السلبية، وهو الهجر في المضجع، وذلك بعزل فراشه عن فراشها، وترك معاشرتها لقوله تعالى: ﴿ واهْجُرُوهُنَّ ﴾ من الهِجران والبعد، والهجر في المضاجع هو أن يُضاجعها ويُولِّيها ظهرَه، ولا يجامعها ويريها من نفسه تعاليًا عليها واستغناءً عنها، وهو علاج شديد للمرأة مذل لكبريائها، فإن أعزَّ ما تملك المرأة وتُدِلُّ به أنوثتها، وأقوى ما تغزو به الرجل هذا السلاح[17].
والمضجع موضع الإغراء والجاذبية التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها، فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها وكانت في الغالب أميلَ إلى التراجع والملاينة، أمام هذا الصمود مِن رَجُلِها، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه في أحرج مواضعها.
ومن أوجه الحكمة في هذا الإجراء أن الزوج «إذا أعرض عن فراشها، فإن كانت محبة للزوج، فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضته، فيظهر النشوز منها، فيتبيَّن أن النشوز مِن قِبَلِها»[18].
وهذا الهجر عند العلماء غايته شهر كما فعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أسرَّ إلى حفصة أمرًا فأفشته إلى عائشة رضي الله عنها، وتظاهرا عليه.
كما أن الهجر مقيَّد بترك المعاشرة فقط، لا ترك الكلام معها مطلقًا، ويجب أن يسلم من البغي والعدوان، فهو يكون عند خلوته بها، بحيث لا يشعر بذلك غيرُهما، فلا يجوز هجرُ البيت، والهجر أمام الأولاد، فهذا من العدوان، ولأن هذا يحوِّل وسيلة الهجر من وسيلة تربوية تصلح نفسية الزوجة الناشز إلى وسيلة انتقام وتشهير، تحمل نفسية الزوجة على التصعيد بدل الإنابة والرجوع[19].
3- الضرب:
وتأتي العقوبة الإيجابية إذا لم ينجح الرجل في إرجاعها عن نشوزها بوسيلتي النصح والهجر، لم يبقَ أمامه إلا أن يضربها ضربًا رقيقًا غير مبرح؛ لقوله تعالى: ﴿ واضْرِبُوهُنَّ ﴾، والضرب هنا على وجه التأديب للزوجة لا يكسر عظمًا، ولا يشين جارحة؛ قال القرطبي: «والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظمًا، ولا يشين جارحة، كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير»[20].
وقال العلماء: ينبغي ألا يوالي الضرب في محل واحد، وأن يتقي الوجه فإنه يجمع المحاسن، وألا يضربها بسوط ولا عصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرأة أحدنا عليه؟ فقال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت»، وقال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: «بالسواك ونحوه»[21].
وقد بيَّنت الآية أن على الزوج التوقف عن تلك الوسائل بمجرد لين الزوجة، وتحقق طاعتها ولا يجوز له البغي والعدوان، والمقصد من تشريع هذا المنهج المتكامل المتدرج لعلاج النشوز هو الوقاية أساسًا، وليس الإهانة ولا الإجحاف بحق المرأة[22]، وخاصة أنه لا يحتاج إليه إلا مع بعض النساء ممن فارقنَ الأصل الذي هو القنوت وحسن الصحبة، ولا يطبق إلا بتدرُّج، وحين تحصل الاستجابة بوسيلة لا يجوز الانتقال إلى التي بعدها، فهو تشريع حكيم يراعي رابطة الزوجية أتَمَّ رعاية ويحفظ مع ذلك كرامة المرأة.
وهذا التوجيه يسد الباب أمام محاولات اتهام الإسلام بإهانة المرأة، وزعم بعض أعداء الإسلام بأن الضرب اعتداء وإهدار الكرامة المرأة، ولكننا نقول لهم: نعم لقد سمح الإسلام بضرب المرأة، ولكن متى يكون هذا الضرب، ولمن يكون وكيف؟ إن هذا الأمر علاج، والعلاج إنما يحتاج إليه عند الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، والضرب هو آخر الأدوية، وكما يقال [آخر الدواء الكي]، جاء بعد الأمر بالصبر والأناة، ثم الوعظ والإرشاد، ثم الهجر عن المضاجع، فإذا لم تنفع كل هذه الوسائل، كان الضرب غير المبرح بالسواك وما أشبهه أقل ضررًا من إيقاع الطلاق عليها؛ لأن الطلاق هدمٌ لكِيان الأسرة وتمزيق لشملها، فالضرب ليس إهانة للمرأة - كما يدَّعون - وإنما هو طريق من طرق العلاج ينفع في بعض النفوس الشاذة المتمردة التي لا تفهم الحسنى[23].
تلك هي الوسائل التي يعالج بها الرجل نشوز زوجته، وهي وسائل تستغرق من الوقت والجهد ما هو كفيل بتهدئة البواعث العارضة، وفتور الطارئ الدخيل، فإذا أطاعته فلا هجر ولا ضرب، ولكنه إجمال وإحسان.
ومن جمال التشريع الإسلامي في هذا المقام أنه لم يورد في هذه الحالة ذكر الطلاق، لا تصريحًا، ولا تلميحًا، بل طلب من الرجل أن يعتصم بحكمته ورجاحة عقله، وأمره أن يعظها أولًا، فإذا لم ينفع الوعظ فالهجر، فإذا لم ينفع الهجر فالضرب، ولم يقل الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، فإن لم ينفع الضرب فطلقوهنَّ، بل قال: ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 34]؛ لأن تقديم احتمالات الوقاية أولى في ذوق المجتمع الرفيع[24].
خامسًا: نشوز الزوج وكيف عالجه التشريع الإسلامي:
ويأتي نشوز الزوج إذا خالف ما يقتضيه عقد الزوجية من التزامات وحقوق تجاه زوجته، وعالج التشريع الإسلامي نشوز الرجل في قوله تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128].
ولهذه الآية مناسبة نزول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضِّل بعضنا على بعض في القسم مِن مُكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنَّت وخشِيت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، يومي لعائشة، فقبل رسول الله منها، قالت عائشة نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ﴾ [النساء: 128][25].
وعن ابن عباس رضي الله عنها قال: خشيتْ سودة أن يطلِّقها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلِّقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزل قول الله تعالى: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128][26].
فقد أشارت هذه المناسبة التي نزلت في جوها الآيةُ إلى تفعيل المرأة التي لمست نشوزًا من زوجها أو إعراضًا لأساس مهم، وهو التنازل عن بعض حقوقها الحيوية التي يجب لها على زوجها صيانة منها لما هو أهم وأولى في نظرها، وهو المحافظة على رباط الزوجية.
هذا المبدأ الحكيم الذي دعا ربُّنا إليه في الآية، وطالب الزوجة بتفعيله عند وجود النشوز أو الإعراض من الزوج في سبيل الإبقاء على خط الحياة الزوجية موصولًا بينها وبين زوجها، وبالتالي إنقاذ الحياة الزوجية من انهيار وشيك؛ قال ابن كثير: «إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا جناح عليها في بذلها ذلك له ولا عليه في قبوله منها»[27].
وقد يكون اقتراح هذا المخرج من الزوج، ولكن الغالب أن يكون من الزوجة؛ لأن النشوز منه، فإذا تم الاتفاق كان ذلك خيرًا من الطلاق.
فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوَّة، وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق، أو الإعراض الذي يتركها كالمعلقة لا هي زوجة ولا هي مطلقة، فليس هناك حرج عليها، ولا على زوجها أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية، أو فرائضها الحيوية كأن تترك له جزءً أو كلًّا من نفقتها الواجبة عليه، أو أن تترك له قسمتها وليلتها، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها، وكانت هي مَن فقَدت حيويَّتها للعشرة الزوجية، أو جاذبيَّتها، هذا كله إذا رأت هي بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها أن ذلك خيرٌ لها وأكرم من طلاقها، والصلح خيرٌ، فينسم على القلوب التي دبَّت فيها الجفوة والجفاف نسمة من الندى والإيناس، والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية والرابطة العائلية.
فهذا الإصلاح من المرأة على ما فيه من التنازل يدل على حكمة المرأة، وهو أحفظ للعشرة ورابطة الزوجية.
والإعراض أخف مظاهر النشوز، وهو طريق إليه، ذلك أن النشوز «يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما، وأن يؤذيها بسبٍّ أو ضرب، والإعراض أن يقل محادثتها ومؤانستها، لطعنٍ في سنٍّ، أو دمامة أو شَين في خُلق أو خَلْقٍ، أو ملالٍ، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك وهو أخف النشوز»[28].
وقوله تعالى: ﴿ بينهما ﴾: [ظرف ذُكر تنبيهًا على أنه ينبغي ألا يطلع الناس على ما يكون بينهما، بل يسترانه عنهم][29].
وهذه الفائدة تحمل الزوجين على الإبقاء على سرية هذه المصالحة قدر المستطاع، وهذا من حسن إدارة الخلافات الزوجية[30].
ولا ينبغي الاستسلام للنفس وشهواتها عند التنازل عن بعض الحقوق من أجل استبقاء الرابطة الزوجية، فإن النفس لو ترك الإنسان إليها القرار، لرفضت هذا التنازل لِما طُبعت عليه من الشح، ولذلك أشارت الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]؛ أي: (جعلت حاضرة له، مطبوعة عليه، فلا تكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجل، ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة على التي لا يريدها)[31]، وهذا الشح إن لم يعالجه العفو والسماحة بين الزوجين أفسد الحياة الزوجية.
[1] تفسير الجصاص ج3، ص 47.
[2] رواه مسلم عن أبي هريرة.
[3] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج (5)، ص (430).
[4] ابن منظور، لسان العرب، ج (6)، ص (4425-4426).
[5] الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص (372).
[6] الحسين بن محمد الدامغاني، إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، ص457.
[7] ابن تيمية، الفتاوى، ج (32) ص (276).
[8] رعاية رابطة الزوجية من خلال القرآن، رشيد بوعافية، ص (252-253).
[9] رعاية رابطة الزوجية، المرجع سابق ص254.
[10] الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، البهي الخولي، ص105.
[11] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ص1738.
[12] ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج (5)، ص (42).
[13] رعاية رابطة الزوجين، ص256.
[14] أضواء على نظام الأسرة، سعاد صالح، ص142.
[15] الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص409.
[16] الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، مرجع سابق، ص105.
[17] أضواء على نظام الأسرة، مرجع سابق، ص140.
[18] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج 6، ص 284.
[19] رعاية رابطة الزوجية، مرجع سابق، ص258.
[20] الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، ج 6، ص285.
[21] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج 6، ص712.
[22] مها يوسف جار الله، ص194.
[23] أضواء على نظام الأسرة، ص141.
[24] الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، ص106.
[25] رواه أبو داود، وحسَّنه الألباني.
[26] رواه الترمذي، وصححه الألباني.
[27] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج (4)، ص 298.
[28] أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط، ج (3)، ص 379.
[29] الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج (4)، ص (237).
[30] الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج (4)، ص (237).
[31] الألوسي، مرجع سابق،ج4، ص(237).

JoomShaper