نهلة الهبيان
كثيرًا ما أخذني وصف النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها بأنها أمُّ أبيها، والذي تناقلناه في بيوتنا من بعده، وكلما رأيت "أبًا وابنته"، طافت عيناي حولهما راسمة مشاعرَ خاصة جدًّا بهذا الثنائي، أخالهما وحاليهما في الهزل والجد، العصبية والتقويم، الحزن والفرح، كل شيء بينهما كيف هو، ثم إذا رأيت غيرهما، فعلت فعلتي الأولى وأحَلْتُ ما يصلني منهما من هالات النور والجمال إلى رسومات حسية جديدة أكتنزها لنفسي، وأتخذ منها زادًا لروحي بعدما يُولُّوا، لكن حين وقعت عيناي على الثنائي بتشكيل آخر "أم وابنها"، وجدتُني أفكر في نفسي كأنثى تزوجت، وأخذت من الأمومة حقائق حدوثها لا شعورها وأمنيتها وحسب.
فهل من أب للأنثى غير أبيها، يَهَبُهَا حياة الأبوة بالفطرة لا باستجلابها سؤالًا وطلبًا؟
لم تكن الإجابة بعيدة بالنظر في حال كثير من الأمهات، فالبكريُّ يفعلها ويحسنها بما يفوق التصور، وربما لهذا الدور المفاجئ في حياة الأنثى من ابنها، الذي مهما بلغ من عمرٍ وخبرة وتمرس، فلن يضاهيها ولا حتى يبلغ قدرًا يمتلك من البراهين المادية شيئًا، أُعْزي كثيرًا من المكانة التي لا تعرف الأمهات لها سببًا واضحًا في معزة الطفل الأول، وخوفها الزائد عليه وقلقها، وراحتها في قربه، بل كثيرًا ما تكون راحة إحداهن وسعادتها لا تتمثل لها إلا من راحته هو وسعادته.
وكيف لا يتحقق للأنثى ذلك بعد مولدِهِ؛ وهو الذي تشعر معه بأن عرسها ممتدٌ بلا فواصل وبلا انتهاء، إن تأخَّرَ الحمل فهي فترة انتظار لشعور لا تعرف عنه شيئًا إلا اللهفة التي فُطرت عليها؛ فالأنثى أمٌّ وإن لم ينطق رحمها بحركة واحدة، عروسٌ هي لتسعة أشهر كاملة، غير أنها تضع فستانها الأبيض، وتُبدِّل ثيابها في كل شهر بما يناسب وضعها الجديد، تترقب حالها وشكلها، لا تحزن إن تضاعف وزنها وتغيرت ملامحها؛ إذ إن نظرها في هذا التغير نظرةُ شغوف لقطعة من نفسها اصطفاها الله يوم قدَّر الأنساب والأسماء؛ ليعيدها إليها ثانية في بهاء وحُسْنٍ اسمه "جنين"، يسكن عالمه الغيبي بداخلها، الذي تملكه ولا تعرف عنه شيئًا، ولا يأتيها من خَبَرِهِ إلا مثل هذه التغيرات الظاهرة.
ثم تولد معه ثانية بعدما وُلدت أول مرة من رحم أمها، الحياة تدفقها أنثى أخرى تُوائِم هذا الصغير المدفوق من ظلمتها، يستشرف الدنيا بفتح عينيه الجميلتين على رؤية وجهها المتقد شوقه، المنطفئ وَهْنُه بمجرد اقترابه فقط، فما بالك بحمله؟ يدْفِئ فراغَ قلبها قلبُه الذي أعطته إياه في كل ليلة تحكي له عن نفسها وعن عالمها، ثم تنام بعدما تتحسس سكونه في بطنها، تُمْسِك به كأنما تستعيد كل قُوى العالم الشاردة في طرقات الانتظار الطويل، تطعمه حليبها وهي المطعومة من ضمته كل صنوف المشاعر، ما علَّمه الله لآدم وأبنائه من بعده، وما لم يعلمهم إياه لفظًا صريحًا، غير أنهم يُحِسُّونه معانيَ مقدرة بدقيق ما يملكونه من مَلَكَاتٍ.
وبعد كل هذا أليس من حقي أن أظن الظن الذي تبرَّأ من كل إثم يوم أقامه الله في محراب اليقين خاشعًا عابدًا بأن "التسعة أشهر" كافية جدًّا لتنشئة أب لكل أنثى؟ والتسع الأولى على وجه التعيين؛ لِما فيها من تبادلية فطرية عفوية بين طرفين، ليس لهما سابقة علم، ولا تجربـة بتفاصيل الآخر وحاله وعالَمه، فقط أحاسيس ينشد بعضها بعضًا!