قد يكون انتزاع الطفل من أبويه هو أقسى إجراء تتخذه أي دولة بهدف حماية الطفل والحفاظ على سلامته، إذ قد نختلف في مفهومنا للعنف والإهمال، وفيما إذا كان الأمر مسألة عائليّة أو شأنًا اجتماعيًّا، لكن في المقابل فإن فرض الدول سياسات تكون بموجبها هي الراعي الأول للطفل، في حال إثبات تعرّضه لعنف أو إهمال في البيت، له أضراره النفسية والاجتماعية أيضًا.
فعلى الرغم من أنه يبدو، للوهلة الأولى، أنّ هناك دلائل وإحصاءات لنتائج جيّدة على المدى الطويل لإبعاد بعض الأطفال عن ذويهم، وهو أمر متوقع وإلّا لما كانت الدول ستنفق هذه المبالغ الطائلة في إجراءٍ قاسٍ لا يضمن أمان الطفل، إلا أن الآثار السلبية لانتزاع الطفل من أبويه قد تكون مكافئة، أو أشد، من بقائه مع أهله.


لماذا يُنتزع الأطفال من حضانة الوالدين؟
للتعرض للعنف والإساءة في الطفولة تأثير كبير على الطفل في مراحل حياته كلها، فالأطفال الذين يمرون بتجارب عنيفة، من طرف الوالدين على وجه الخصوص، يميلون لتطوير مشكلات نفسيّة وسلوكيّة ويكونون عُرضةً للوقوع في شباك الاكتئاب، لذا، ومن أجل حماية الطفل المُعنّف، تتخذ بعض الدول سياسات تكون فيها هي الراعية الأولى للطفل، بما يتطلب انتزاع الطفل من أبويه غير المؤهلين للرعاية السليمة.
انتزاع الطفل من أبويه
ففي الولايات المتّحدة على سبيل المثال، تُحقِّق خدمات حماية الطفل فيما يقارب 4 ملايين ادعاء حول حالات عنف وإهمال يتعرض لها الأطفال في المنزل، وانتزعت السلطات، نتيجة لهذه التحقيقات 200 ألف طفل من عائلتهم وتحيلهم لعائلات حاضنة مؤقتة.
ولا يؤخذ قرار الانتزاع، أو حتى البدء بالتحقيق، بسهولة، فلكي تشرع الشؤون الاجتماعيّة و«خدمات حماية الطفل» بالتدخل، عليها أن تمر عبر بروتوكولات إدارية وقضائيّة صارمة، بل وتميل «خدمات حماية الطفل» دائمًا للمحافظة على تماسك الأسرة، لكن، إذا كان في بقاء الطفل أذية أكبر من انتزاعه، يُتّخذ القرار الصعب.
وبينما تضع هذه السياسات حماية الطفل نصب أعينها، تُشير الأبحاث في السنوات الأخيرة إلى أنّ لهذا الإجراء تبعات كبيرة على الطفل وعلى الوالدين، حين لا يوازن المهنيون بين الوضع القائم وبين المخاطر الناتجة عن إبعاد الطفل عن والديه.
قد يكون الدواء أسوأ من الداء
اللحظة التي يُنتزع فيها الطفل من والديه هي لحظة مفصليّة في حياته وفي حياتهم أيضًا، وقد تتغيّر فيها حياته للأفضل، وإن تسبب الانتزاع في تروما تتمدد في جوانب حياة الطفل كلّها، فالطفل لا يُنتزع من والديه فقط، بل يُنتزع من كلّ ما يألفه؛ عائلته وأصدقائه وبيئته، ويُستبدل بالمألوف والأليف ضبابيّة خانقة، وقد لا يعرف الطفل سبب انتزاعه، وقد لا يعرف ما المدّة التي سيقضيها بعيدًا عن عائلته، وهل العائلة الحاضنة محطته الأولى أم الأخيرة؟ وقد لا يعي ما العائلة الحاضنة بالأساس.
انتزاع الطفل من أبويه
وتُركز «خدمات حماية الطفل» عادةً على تأثير ما حدث للطفل قبل دخوله لدائرة الاحتضان، بينما يسقط عن اهتمامها ما يحدث في سيرورة الاحتضان ذاتها وعمّا يحدث بعدها، فحين يتنقل الطفل بين أذرع الرعاية المختلفة، يكون حاملًا عددًا ليس سهلًا من التجارب القاسية على كاهليه، فيُضاف عليها قطع التواصل مع والديه، اللذين كانا برغم الإساءة شخصيات ترابطيّة مألوفة، ويُفرض عليه تشكيل وبناء علاقات جديدة مع شخصيات غريبة وغير مألوفة، وغير ثابتة في الغالب أيضًا، مثل طاقم الملاجئ والعاملين في الوكالات المختلفة.
هذه التغييرات غير المتوقعة، وخصوصًا تغير الشخصيات الراعية، تؤثر في صحّة الطفل النفسيّة وقد تكون سببًا مباشرة في حزنٍ مزمن وتطوّر تروما معقّدة، وتشير بعض الأبحاث إلى أنّ تلك الصدمة المعقّدة لدى الأطفال لا تأتي بمفردها، بل تكون مصحوبة بخلل في تنظيم الهورمونات في الجسم: توتر مزمن، فقدان شبكة الأمان، وقد تؤثر في قدرة الطفل في موازنة مشاعره والتحكّم في عواطفه، كما أنّها قد تشوّه مفهومه عن الذات والآخرين، بالإضافة إلى العواقب النفسيّة طويلة المدى.
كما أن هنالك مساحة رماديّة واسعة بين سياسة الدول فيما يتعلّق بحماية الطفل وبين تطبيقها، فبينما تُشير الأبحاث إلى ضرورية النظر في تأثير انتزاع الطفل من أبويه، وإلى بذل جهود جبارة للتخفيف من ضرر ما يمرّ به الطفل، فلدى هذه السياسات القدرة على إحداث ضرر أكبر.
أهل الطفل المنتزع.. الأم نحو المخدرات والأب يفكر في الانتحار
لا تتخذ السلطات إجراءً قاسيًا من هذا النوع دون التأكد من كون الأهل يشكون تهديدًا أو مصدر ضرر لسلامة الطفل، لكن، وفي معظم الحالات، لا يؤذي الوالدان أطفالهما قصدًا، وإنّما نتيجةً لتجاربهما الشخصيّة المؤذية، ولذا، يتأثر الوالدان سيكولوجيًا أيضًا بانتزاع الطفل منهما، فقد تبيّن أنّ الأمهات اللائي ينفصلن عن أطفالهن أكثر عرضة لتطوير اضطرابات القلق وللانزلاق نحو الإدمان على مضادات الاكتئاب والمخدرات في غضون عامين.
انتزاع الطفل من أبويه
ولا يمكن غض الطرف عن أنّ معظم الآباء الذين يصل بهم الحال للمقاعد الأولى في محاكم الأسرة قد عانوا من أشكال متعددة من الحرمان في طفولتهم، وأنهم قد طرقوا أبواب الأبوّة بأقل الموارد الممكنة، أو بمعنى آخر كانوا فقراء لحظة تزوجهم، لذا، قد تدفعهم هذه الإجراءات القاسيّة للجوء لآليات تأقلم مؤذية للذات وللآخرين.
وتشير الأبحاث، التي تطرّقت للتأثير النفسيّ على الوالدين بعد انتزاع أطفالهم، إلى حالات نفسيّة أليمة بعد الانتزاع، وارتفاع في نسبة الأفكار الانتحاريّة التي تراود الوالدين بعد انتزاع الطفل منهما، بل ومحاولات انتحار لا تحصى، إذ يؤدي إبعاد الأطفال عن والديهم إلى تعاظم شعور الفقدان والحرمان الذي يعاني منه الوالدان بالأساس.
علاوة على الضرر النفسي الناجم عن انتزاع الأطفال، قد يعاني الوالدان أيضًا من ما يسمى «فقدان الدور»، أي تجريد الوالدين من دورهم الاجتماعيّ الذي كان يوفّر لهم هيكلًا متينًا، نوعًا ما، وهدفًا للاستمرار في سياق الأوضاع الهشّة.
كما أنّ الرقابة والقيود التي تُفرض على الوالدين تؤثر في علاقتهم الحميميّة وتزيد من فوّهة الشرخ الذي تسبب فيه الانتزاع، كذلك، لا يمكن تجاهل الوصمة الاجتماعيّة التي يُلصقها هذا الإجراء على العائلة والتشويه الذي ينجم عن ذلك في مفهوم الأسرة والوالديّة.
بالإضافة لذلك، يلعب الفقر دورًا مهمًا في وصول العائلات لعتبات المحاكم و«خدمات حماية الطفل»، إذ يرتبط الفقر ارتباطًا وثيقًا في ارتفاع نسب الإهمال واتباع السلوكيات التي قد تهدد أمان العائلة، وتشير الإحصاءات إلى أن محاكم الأسرة في الدول الغربيّة مليئة بوجوه من الأقليات الإثنيّة، والتي ينتشر بينها الفقر أكثر من العائلات الغربيّة، كذلك، فإنّ الخلل في التفاهم الثقافي وعدم فهم المنظومات الحكوميّة للغة التربية عند الأقليات قد يؤدي لارتفاع تعارضهم مع سياسات الدولة التي يعيشون بها.
وبالتالي فإن السعي لابقاء الطفل في منزله مع تقديم المساعدة اللازمة للوالدين هو الحل الأمثل في كثير من الأحوال، والأكثر سلامة لصحة الطفل والوالدين النفسيّة والجسديّة على حد سواء، إذ أنّ النظر في تأثير انتزاع الطفل من أبويه ودراسة تداعيات هذا القرار قبل اتخاذه يصبّ، في النهاية، في هدف نظام رعاية الطفل الأوليّ، أي حماية الطفل من الأذى.

JoomShaper