ربى الرياحي
في غزة، تبرهن الأمهات يوميا، من خلال القصص والمشاهد الموجعة أنهن استثنائيات بعطائهن، قويات بثباتهن، الأمومة لديهن مختلفة بحجم أعبائهن وأوجاعهن.
الأم والمرأة الغزية تعد رمزا للصمود والحياة، فهي من قلب الوجع تجد الأمل، تقاوم الموت بالولادة، وتضحي بروحها لتبقى أرضها ويسلم أبناؤها. ليس هناك أصعب من مشهد لإحدى الأمهات وهي تحمي أبناءها بجسدها خلال نزوحهم من الشمال إلى الجنوب مشيا على الأقدام، وتحمل بعضا من احتياجاتهم وأوجاعا وأعباء ستبقى معهم حتى انتهاء الحرب وعودتهم إلى منازلهم.
وفي مشهد آخر، يجسد القوة والإيمان معا، تظهر أم غزية والدماء تغطي وجهها ويديها، لكنها تكابر على وجعها وتنسى آلامها وجراحها من أجل أن تحتضن طفلتها الخائفة وتطمئنها في عملية النزوح غير الآمنة، هذا حال الأمهات في غزة، فمع كل يوم تتصدر واحدة منهن مشهد البطولة بطريقة ما.
وبالرغم من سياسة القهر التي يتبعها الاحتلال ضد الأمومة في فلسطين ككل عبر شبح الفقد المتكرر، إلا أن النساء والأمهات هناك يعرفن تماما قيمة الحياة ويؤمن بدورهن في حماية وطنهن وتقديم الشهيد تلو الشهيد من أبنائهن بفخر واعتزاز وبقوة ممزوجة بالصبر، يطببن الوجع ويقفن إلى جانب الجرحى واليتامى والمكلومين، فهن كأمهات يحملن أعباء أسرهن وأعباء كل من شردته الحرب وأبقته بلا عائلة أو سند.
الأمومة في غزة لا تتجزأ، هناك كلهن أمهات يفضن بحنانهن على الصغار والكبار، فأمومتهن الاستثنائية جعلت منهن نماذج حية في البطولة والصمود والتضحية بالرغم من القلق على المصير المجهول لأسرهن والأقارب والوجع في كل لحظة، إلا أنهن قادرات على صنع الفرح وترجمته بأبسط التفاصيل.
الأم الغزية استطاعت أن تؤدي أدوارا مختلفة، فهي الأم والمربية والحامية والمناضلة والمجاهدة تدفع ثمنا غاليا في سبيل النصر وحياة أبنائها، لأنها استثنائية بأمومتها تصر على أن تكون الحضن لكل من فقد الأمان وفقد إحساسه بالحياة.
"الأمومة في غزة مختلفة وهي عنوان للصمود"، بحسب الاختصاصي النفسي الدكتور موسى مطارنة، حيث تميزت الأم الغزية بقوتها وثباتها وتحملها لأوجاع الفقد والقهر، فاستحقت أن تكون نموذجا استثنائيا يقدم أغلى الأثمان من أجل الحرية واسترجاع الأرض.
ويلفت إلى أن الأم هناك بمثابة الجندي، فهي تحارب بكل شيء تملكه بحياتها، بأبنائها، ببيتها وحتى براحتها، تحمل على عاتقها ثقلا من الأعباء لتمنح الأمان لأبنائها حتى لو على حساب حياتها، إضافة إلى دورها في مداواة جراح غيرها ورفع المعنويات في ظل المخاطر الكبيرة التي يواجهونها يوميا.
ويبين مطارنة أن الأم هي من تنجب الأبطال وتربيهم وتزرع فيهم حب الأرض، وهي أساس قوتهم وصمودهم، منها يتعلمون الصبر والتضحية والإيمان، ومن إرادتها يستمدون الأمل، فهي الأم والمربية والمعلمة والمجاهدة.
آلام وأوجاع لا تنتهي تعيشها الأم الغزية، وفق مطارنة، خاصة في الحرب الأخيرة التي دخلت شهرها الرابع، فأمام عينيها يستشهد أبناؤها وتحرق جثثهم وتبتر أطرافهم، ومع ذلك تظل صامدة محتسبة لديها من الصلابة النفسية ما يكفيها لتصنع جيلا يؤمن بقضيته قادرا على مواجهة عدوه ومحاربته بقوة الإيمان واليقين.
ومن جهتها، ترى خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم، أن الأمهات في غزة يحاربن الموت ويقفن أمامه كل لحظة وهن يحاولن بكل قوتهن حماية أبنائهن منه، معاني الأمومة في غزة مختلفة عنه في كل العالم، يسعين لتوفير الطعام واللباس لأبنائهن وتوفير المأوى والدفء، وخاصة بعد قصف المنازل والنزوح والمعاناة المريرة من توفير سبل العيش اليومي، هن يحملن هم ووجع ما فقدن من أولادهن وعائلاتهن ويعشن في القلق والخوف الدائم من وجع قادم قد يأتي في أي لحظة.
اليوم؛ النساء والأمهات في غزة، يحملن دور الحامي والمدافع والداعم والمساند لأطفال وعائلات بأكملها تعاني من ويلات الحرب وصعوباتها، دور المرأة والأم في غزة عبارة عن محاولة جاهدة لإنشاء نوع من التوازن بين الألم والأمل، الألم على الفقد والفراق والأمل في نجاة الباقين، وفق إبراهيم.
اليوم، تبقي الأم قلوب أطفالها نابضة، بكاؤها ونحيبها وصرخاتها تُسمع الكون، وصورتها وهي تحتضن طفلها شهيداً أصعب صورة في الكون، هي تقدم من أجل فلسطين وأجل غزة أثمن وأغلى ما يمكن أن يقدم.
وتبين إبراهيم أنه بعد نشوب الحرب في 7 أكتوبر، استطاعت الأم، وبكل فخر، أن تقدم بطولة وتضحية وصمودا وصبرا وقوة إيمان بالله وبالأرض والنصر. وبالرغم من سياسة قهر الأمومة التي استخدمها الاستيطان عبر شبح الفقد المتكرر، إلا أن النساء والأمهات في غزة يعرفن تماماً قيمة الحياة، ولا يتوقفن أبداً عن دورهن الأساسي.
في الثقافة الجمعية والمجتمعية، أصبحت الأمهات العصب الأساس الذي يقوم عليه المجتمع الفلسطيني، وهن استثنائيات يفهمن معنى قوة الحياة والمقاومة الجماعية والواقع الذي لا يمكن تغييره إلا معاً، فالأمومة فعل غريزي جمعي ولا حدود لأثره ولا كلمات تستطيع وصفه.