د. أميرة بنت علي الصاعدي

قدَّمتُ عدة دورات للمُقبِلات على الزواج، ودرَّبت مئات الفتيات، وصَّيت ونصحت ووعظت، ووضحت حقوق الزوجين، ووضعت قواعد وقوانين حياتية مهمة، وساهمت- ولله الحمد- في بناء أُسَر مسلمة مستقرة.

ومن أصعب المواقف التي مررت بها عندما دخلت زوجة ابني معي في إحدى الدورات فكنت أسأل نفسي: هل سأكون صريحة في تلك الدورة وخاصة فيما يتعلق بحقوق الزوجة على زوجها؟ هل سأعطيها تلك المفاتيح ومن ثم كأني أفتح عيونها على أمور من صالحها وربما لا يحبها الطرف الآخر؟

وجدت نفسي- ولله الحمد- أتكلم بكل شفافية، وتجاوزت الأمر بكل أريحية.

 واليوم سأكتب لابنتي العروس، وصايا ونصائح لحياتها الزوجية، وهذا الموقف الصعب الآخر.

ماذا سأقول؟ ومن أين أبدأ؟

تاهت الكلمات في ساحات المشاعر، وتلاشت الأفكار في هواء المخاوف، وتلعثمت العبارات عند صوغ النصائح.

بنيتي صغيرتي ستصبح زوجة تستقل بحياتها، وترتبط بشريك عمرها، لن تكون طوع أمها وأبيها، بل طوع زوجها، وتحت كنفه وستره.

شعور مختلف ومرتقب، كيف تكون الأيام والساعات القادمة، حين أسلمها لزوجها وأغادر خلفها؟

يومٌ كنتُ أنتظره طويلًا، ودعوت الله كثيرًا أن يبلغني إياه، فالحمد لله على فضله ومنِّه وجميل لطفه.

 تذكرت حين تزوج ابني، سالت قريحتي، وانسابت كلماتي، وكتبت وصيتي "وصية أم لابنها ليلة زفافه" انتشرت الوصية وذاع صيتها، وتناقلتها المواقع، وطبعت للأزواج، ونفع الله بها ولله الحمد.

كانت وصية صادقة من قلب أم محبة وناصحة، كان قلمي حينها سيالًا ومشاعري متدفقة؛ حيث إني لأول مرة أزوِّج أحدًا من أبنائي.

واليوم بعد طول غياب، وبعد هجران القلم لسنين، عدت فضاعت مني الكلمات، وتعثرت العبارات، فماذا سأقول وأكتب؟ وبماذا سأعبر وأبوح؟

بنيتي صغيرتي وعروستي، مضيت عمرًا، وقضيت زمنًا، ترفلين في نعيم بيت الأسرة، وتكبر آمالك وأحلامك، وتتشوقين لمستقبل مشرق.

كنتِ لبيتنا ابتسامةً مشرقةً، وروحًا متألقةً، ونفسًا بشوشةً، كنت الحياة والصديقة، والأخت والرفيقة.

واليوم تنتقلين لكنف رجل سيكون لك السند والعضد، فكوني له القلب والصدر، وسيكون لك القوة والأمان، فكوني له الحب والحنان.

 زوجك جنتك ونارك، طاعته عبادة، ومحبته سعادة، واحترامه سيادة.

بقدر تقديرك واحترامك، تعلو مكانتك، ويرتفع قدرك، وتثبت محبتك ويعلو شأنك.

بيتك دفء وحِضْن، واستقرار وأمن، مملكتك سر سعادتك، سكينتك ومنبع مودتك.

وأسرتك لتكن أعلى أولوية، وأجمل حياة، وأسمى هدف.

بقدر محافظتك على هذه الأولوية، واستمتاعك بهذه الحياة، وبلوغك الهدف، بقدر نجاحك وفلاحك، وسر قوتك وثباتك، فلا ترخي الحبل لينفلت الزمام، ولا تشديه فينقطع الوئام.

نفسك وذاتك لها حق وقدر، لا تذوب في الغير، ولا تبالغ في القرب، ولا تنسى حظها من الحب.

بقدر حبك وتقديرك لذاتك، ورعايتك لنفسك، بقدر توازنك وعطائك واعتزازك.

حواء السكن:

خلق الله حواء زوج آدم لتؤنسه ويسكن إليها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، فالزوجة سكن للزوج، أنيسة الروح، وبلسم الحياة، فكوني لزوجك السكن والأمان، والحب والمودة، قال ابن كثير: "من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهن مودة: وهي المحبة، ورحمة، وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو رحمة بها، بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للأُلْفة بينهما، وغير ذلك".

 قوانين السعادة الزوجية:

بنيتي وعروستي، مما كنت أذكره في دوراتي قوانين السعادة الزوجية، ولا بأس بأن أهديها لك:

قانون الصلة بالله:

صلا ما بينكما وبين الله، يصل الله بينكما، فالمعصية شؤم، والطاعة بركة.

قال أحد السلف رحمه الله: والله إني لأعرف شؤم معصيتي بخُلُق دابَّتي وزوجتي!

تعَلَّقي بحبل الله المتين، وتوكلي على الحي القيوم، فلن يضرك أحد ولو اجتمعت الأمة على ذلك.

فمن أعظم الأهداف في الزواج (العبادة)، فاستشعار أن الزواج عبادة، يرسم لنا الطريق بوضوح، ويحدد لنا المسارات والاهتمامات والمآلات، ويعزز قيم الاحتساب والصبر والبذل والعطاء، ويهوِّن المصاعب والعقبات، ويعين على تحمُّل المشاق ومكابدة الابتلاءات.

بقدر صلتك بربك وبقوة علاقتك بالله، بقدر طمأنينتك وسكينتك.

قانون المسئولية:

قال صلى الله عليه وسلم: «كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرَّجلُ راعي أهلِ بيتِه وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم».

الزواج واقع لا حلم، ومسئوليات وتكاليف، لا تحقيق اهتمامات وتطلُّعات وآمال.

 فحين يدرك الزوجان أن كلًّا منهما مسؤول عن الآخر «كُلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئول عن رعيته»، فهذا حافز له ليهتم ويعتني به، ويبذل غاية جهده لراحته وسعادته، فإن الحياة حينها تكون تكاملًا وتفاعلًا وتعاونًا، لا صراع وندية ومساواة.

بقدر تحمُّلك لمسئولية بيتك، بقدر تميُّزك وتقدُّمك ونجاحك.

قانون الأنوثة:

يقول الشاعر جرير:

يصرعن ذا اللُّبِّ حتى لا حراك له       وهن أضعف خلق الله أركانا

الأنوثة سر المرأة وجلالها، وفطرتها وكمالها، وزينتها وجمالها.

حين تثبت الزوجة أنوثتها، برقتها وحنانها ورقي تعاملها ولطيف عباراتها وجميل لمساتها، فإن الزوج ينحني لها احترامًا، ويقدر لها مشاعرها، ويلين قلبه ويستسلم لجمال روحها.

وبينما يجد الزوج عقلًا يعارضه ورأيًا يصادمه، واستعراض قوى وافتعال خصومة، فإنه يشمر للانتصار ويسعى بكل قوته لكسب المعركة وهو بها جدير.

حين تستثمر الزوجة عاطفتها تفوز بقلبه، وحين تستخدم عقلها وعضلاتها تخسر جولتها، ومن يدخل الحياة بنية إسعاد من اختارته زوجًا، تبقى السعادة من أولوياتها، والعكس صحيح.

بقدر استثمارك لمكامن قوتك وسر جاذبيتك، بقدر استقرارك واستمرارك.

قانون الأجر:

ابتغاء الأجر مطلب عظيم، قال تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: 160]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك»، وكذلك ما تضع الزوجة في فم زوجها وولدها.

العاقل يبحث عن الأربح، والأكثر أجرًا وثوابًا، ولا يتشاغل بالمفضول عن الفاضل؛ ولذلك كانت أسئلة الصحابة "أي الإسلام أفضل؟" "أي العمل أفضل؟" "أي العمل أحب إلى الله؟" "أي الصدقة أعظم أجرًا؟" "أي الأعمال أقرب للجنة؟".

لا تستصغري أمرًا، ولا تستثقلي عملًا، واحتسبي الأجر في الخدمة والبسمة والأكلة، فإن النية تجارة العلماء.

قانون الحق والواجب:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: «زوجها»، قلت: فأي الناس أعظم حقًّا على الرجل؟ قال: «أمه».

قال شيخ الإسلام: "وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله، أوجب من حق الزوج".

كثر الحديث عن الحقوق الزوجية، والأصل في العلاقات الزوجية أنها تقوم على المسامحة والمكارمة، لا على النزاع والخصومات، متى ما عَظَّمت الزوجة حق الله، وأدت حق الزوج، فُتِحت لها أبواب الجنة، كما وعد المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إذا صلَّت المرأةُ خمسَها، وصامت شهرَها، وحفِظت فرجَها، وأطاعت زوجَها، قيل لها: ادخُلي الجنَّةَ من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شئتِ».

"قِيلَ لها: ادْخُلي الجنَّةَ من أَيِّ أبْوابِ الجنَّةِ شِئْتِ"؛ يعني: يُنادَى عليها من أبوابِ الجنَّةِ الثَّمانِيَةِ، تَكريًما وتَشريفًا؛ لأنَّ هذه الخِلالَ هي أُمَّهاتُ أفْعالِ الخيرِ، وأسْبابُ دُخولِ الجنَّةِ، فإذا وَفَّتْ بها المرأةُ وُقِيَتْ شَرَّ ما عَداها.

هذه الرباعية التي إذا فعلتها المرأة، استحقت هذا الأجر العظيم، ومنها طاعة الزوج، دليل على أهمية هذا الحق وعظمه وفضله، حيث لا نزاع ولا خصام، بل طاعة واحترام، والطاعة بركة.

ومن بركات هذه الطاعة استحقت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أن يرسل لها السلام ربُّها، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتَتْكَ فاقرأ عليها ‌السلام ‌من ‌ربِّها ومني، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصبٍ، لا صخبَ فيه، ولا نصب".

"لا صَخَبَ فيه"؛ أي: لا يكونُ فيه ضَجَّةٌ ولا صِياحٌ، والصَّخَبُ: هو الصَّوْتُ المُرْتَفِعُ، "ولا نَصَبَ" وهو المشَقَّةُ والعَناءُ والتَّعَبُ".

لماذا استحقت خديجة رضي الله عنها هذا الفضل وهذا القصر وهذا الشرف حيث يبلغها السلام رب العالمين؟

قيل: إنَّها حِينَ دعاها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للإسلامِ أجابتْه طوعًا ولم تُحوِجْه إلى صَخَبٍ ولا نَصَبٍ برَفْعِ صوتٍ ولا مُنازعةٍ في ذلك؛ فناسَبَ أنْ يكونَ بيتُها في الجَنَّةِ على الصِّفةِ المقابلةِ لفِعلِها.

إنها الطاعة من المرأة الصالحة واحترام الزوج وعدم رفع الصوت.

بقدر طاعتك لزوجك، واحتسابك لأجرك، بقدر كسبك للبركات، والتوفيق للخيرات.

قانون الصبر:

قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

الصبر رداء لا يخلع، ودثار لا يلقى، هو دواء الحياة وشعارها، قيل لأحد العُبَّاد: ما هو الصبر الجميل؟ قال: أن تبتلى وقلبك يقول الحمد لله.

الحمد لله على ما قدَّر وقضى، والحمد لله على ما أعطى ومنع، والحمد لله على السراء والضراء.

 

بقدر صبرك وتصبرك، تنفرج الأزمات، وتكشف الكربات، وتنحل المشكلات.

قانون الثقة بالله:

في هذا القانون لا أستحضر سوى قصة أُمِّنا هاجر عليها السلام، حين قالت: "إذًا لا يُضيِّعنا الله"، صدح الكون بقولها، واهتزَّت الجبال لثباتها، وفرَّ الشيطان من يقينها، وبقيت مع الله فلم يُضيِّعها، حيث لا بشر معها ولا أنيس، ولا شجر ولا مغيث، فتفجَّرت زمزم من تحت قدميها، وهوت الأفئدة لمكة، واستجيبت دعوة إبراهيم عليه السلام، فأطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف.

بقدر ثقتك بربك، ويقينك بالله، تصحبك عناية الله، وتفتح لك الأبواب، وتسخر لك الأسباب.

قانون التغافل والتغافر:

قال عثمان بن زائدة: "قلت للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل، فقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل". وقال الحسن البصري: "ما زال التغافل سمت الكرام"، فمن هدي النبي صلى الله عليه وسلم يتغافل عمَّا لا يشتهي، في مجلسه صحابي تكلَّم كلمة كان يجبُ ألَّا يقولها فلا يُعلِّقُ عليها، يتغافل عنها كأنه لم يسمعها، إنسان تجشأ فعل ذلك كثيرًا فقال له: كُفَّ عنَّا جشأكَ... يتغافل عمَّا لا يشتهي.

قال تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، يقول الإمام البغوي في تفسيره: "... مثل قبول الاعتذار والعفو والمُساهَلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك..".

ولقد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة قد يصعب حصرها، أو حتى تصوُّرها! لأنه من أسباب السعادة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يتغافل حتى عن الزاني! ليستر نفسه ويُصلِحها هو بذاته، فإنَّ ذلك أقوى العلاج وأضمنه، وأعظمه نتيجة، وأكثره استمرارية، من داخله، وباختياره بعد اقتناعه، لا بالضغط عليه من خارجه، حتى إذا زال هذا الضغط عادَ لفساده!

تغافلي وكأنك ما رأيت أو سمعت، فليس كل قول يلتفت له، ولا كل فعل يحاسب عليه، فالتغافل من شيم الكرام، والتغافر من سيماء المحبة.

قانون الحسنات والسيئات:

وهو قانون العدل والإنصاف، حيث نستحضر حسنات الشريك دائمًا، ولا نقف على السيئات فقط، حتى تستمر بنا الحياة، وتسير المركب على الجادة، نحن بشر نخطئ ونصيب، ونحلم ونغضب، فليس من العدل تعداد أخطائنا، ونسيان صوابنا، ولا ذكر سيئاتنا وغمط حسناتنا، بل الحق هو ميزان الحسنات والسيئات، فكم من حسنة فاقت صحيفة السيئات، ورجحت بها كفة الميزان.

فبقدر عدلك وإنصافك بقدر ارتياحك واطمئنانك.

هذه قوانين السعادة اجتهدت في صياغتها، وذكرتها ارتجالًا بدون ترتيب وتنميق، من التزم بها سعِد وأسعد، وارتاح وأراح، ومن تجاهلها اضطربت حياته وتكدرت لحظاته.

بنيتي عروستي:

وختامًا: لا أملك لك إلا دعوات في سجدات، أن يجعل التوفيق حليفك، والهدى طريقك، ورضا الله غايتك، والآخرة همَّك، ويكفيك جميع أمرك، ويبارك لك في زوجك.

 

هذه وصيتي حبَّرتُها لك تحبيرًا، وفي الجَعْبة كلمات تعجز عنها الأقلام، ومشاعر لا يفصح عنها البيان، ونبضات القلب ترقص فرحًا، فأدم اللهم علينا الأفراح، واجعلها طاعات، ومسرَّات بلا منكرات، وبارك اللهم في أعراسنا، ووفقنا فيها لما تحب وترضى، وجنِّبنا فيها نزغات الشيطان، وشر النفاثات، ومن شر كل حاسد وحاقد.

JoomShaper