عبدالقادر دغوتي
- شرع الله تعالى الزواجَ، وجعل له مقاصدَ جليلةً؛ منها: إنشاء أسرة مستقرة تسودها المودة والرحمة، وتَحُوطها السَّكِينة والطمأنينة؛ قال سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
إلا أن الاستقرار المنشود والسَّكِينة المرجوَّة لن يتحققا إلا إذا توفر ما يلزم من مقومات، منها ما نستفيده من قصة آدم وإبليس، وقد وردت هذه القصة في مواضع متعددة في القرآن الكريم؛ لِما فيها من عِبَرٍ بليغة ومواعظَ جليلة لمن يعتبر ويتَّعظ؛ قال الصاوي رحمه الله: "كُرِّرت هذه القصة في سبع سور من القرآن؛ تعليمًا للعباد امتثالَ الأوامر، واجتناب النواهي، وتذكيرًا لهم بعداوة إبليس لأبيهم آدمَ"[1].
- ومن تلكم المواضع ما جاء في سورة "طه"؛ حيث يقول ربنا الكريم سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 115 - 127].
- فقد نصَّتِ الآيات الكريمة على أن أسرة آدم عليه الصلاة والسلام تأسَّست في الجنة؛ حيث لا نصب ولا وصب، ولا غم ولا شقاء، بل هو حبور وسرور، وسكون واطمئنان، لكن حصل بعد ذلك أن أُخرجت هذه الأسرة الطيبة من الجنة، وأُهبطت إلى الأرض؛ لمَّا أخلَّت ببعض مقومات الاستقرار في الجنة.
- كذلك الأمر ينطبق على كل مسلم يرجو إنشاء أسرة مستقرة، تكون محل راحته وسكونه وسعادته، وتكون جنَّتَه في الدنيا؛ حيث لا تظمأ فيها روحه، ولا تشقى فيها نفسه، فإنه لا يتحقق له ما يرجو إلا بحفظ ما يلزم من مقومات، منها ما يمكن استفادته من قصة آدم وإبليس؛ كما عرضتها الآيات المتقدمة من سورة "طه":
(أ) تحصين الأسرة من كيد الشيطان:
- إن الشيطان اللعين يسعى جاهدًا لتقويض بنيان الأسرة المسلمة، ومنع استقرارها، بالتحريش بين أهلها، وبثِّ النزاعات بين أفرادها، وقد حذَّرنا ربنا الكريم من كيدِهِ؛ كما في قوله سبحانه لآدم عليه السلام: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117]، وتذكيره لبنيه من بعده؛ إذ قال: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 27]، كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد كشف لنا مخططَ إبليس؛ فقال: ((إن إبليسَ يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقت بينه وبين امرأته، قال: فيُدنيه، ويقول: نِعْمَ أنت))؛ أي: نِعْمَ الفِعلة التي فعلتها أنت[2].
لذلك وجب أن نحمي بيوتنا، ونُحصن أسرنا من شر الشيطان، بفعل ما تيسَّر من أسباب مشروعة؛ منها:
تنوير البيوت بالقرآن الكريم:
- فإن الشيطان لا يكون له تأثيرٌ في بيت يُتلَى فيه كتاب الله، ومنه بعض سوره المخصوصة؛ كسورة البقرة؛ فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابرَ؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة))[3]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اقرؤوا البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتَرْكَها حسرة، ولا يستطيعها البَطَلَةُ))[4].
الحرص على الأذكار الشرعية:
- ومنها أذكار الصباح والمساء، وأذكار الدخول والخروج، وغيرها؛ فإنها منفرة للشيطان اللعين؛ ففي الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيتَ لكم ولا عَشاء، وإذا لم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء))[5].
الحرص على الكلمة الطيبة داخل البيت، وتجنب السيئ من القول:
- فإن الشيطان اللعين يغتنم كل فرصة لبثِّ النزاع، وإشعال نار العداوة داخل الأسرة، ولو كانت تلك الفرصة مجرد كلمة سيئة؛ لذلك فإن الله عز وجل حثَّنا على سدِّ هذه الذريعة، واختيار أحسن القول وأطيبه، حتى ينقمع الشيطان ويبوء بالخيبة؛ قال المولى الكريم سبحانه: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53].
(ب) اجتناب أكل الحرام:
- فإن آدم وحواء عليهما السلام ما إن أكلا شيئًا مما حرم الله عليهما أَكْلَه، حتى ظهر عليهما أثر ذلك في الحال: ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ [طه: 121]، وإذا كان هذا حال آدم عليه السلام الذي ما تعمَّد أكل الحرام، بل ﴿ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، فكيف يُتوقع أن يكون حال من مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام؟! كيف يرجو لأسرته الاستقرار والسكينة؟ وكيف يشكو الشقاء والهم والغم، وفساد الذرية، وعقوق الأبناء والبنات؟!
(ج) اتباع هدى الله والاستقامة عليه:
هدى الله هو ما فصَّله في قرآنه المجيد، وفي سنة نبيه المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم، من أحكام وآداب وأخلاق، تشمل جميع شؤون الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية.
وإن التزام الهدى الرباني على مستوى الأسرة، يحفظ منظومة الحقوق والواجبات الأسرية، ويثمر المودة والرحمة والاحترام بين أفرادها، ويضمن تحقيق حاجاتهم العاطفية والروحية والبدنية، ويُنمِّي السكينة والطمأنينة والاستقرار، ويدفع أسباب الضلال والتعاسة والشقاء؛ كما قال ربنا جل وعلا: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123].
ومتى حصل الإعراض عن هدى الله تعالى، انحرفت الأسرة عن سبيل الرشاد وضلَّت وتاهت، وسهُل على الشيطان استدراجها إلى مسالك الشقاء وسُبُلِ التعاسة؛ كما قال الله عز وجل لآدم عليه السلام ولبنيه من بعده: ﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117]، وقال: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 - 126].
(د) قِوامة الرجل في بيته:
- ففي الآيات المتقدمة من سورة طه، نجد الخطاب التحذيري من الشيطان اللعين موجَّهًا لآدم خاصة: ﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117]، فهو الذي يتحمل مسؤولية وقاية أسرته من شر الشيطان، ومن أسباب الانهيار والانحراف والشقاء.
- كما نجد أيضًا في نفس الآيات أن المعصية وما ترتب عليها من عواقب نُسِبت لآدم عليه والسلام، مع أن حوَّاءَ كانت مشاركة له فيها؛ قال الله تعالى: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 121].
- فيجب على الرجل أن يكون حاضرًا متيقظًا، قائمًا بأمر بيته وأسرته، يَقِيها من كل شرٍّ متربِّص بها؛ كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6]، وهو مسؤول عن ذلك أمام الله عز وجل؛ ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيته...))[6]، وقال: ((ما من عبدٍ يسترعيه الله رعِيَّة، يموت يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيته - إلا حرم الله عليه الجنة))[7].
والله المستعان، وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.