أ. د. زكريا محمد هيبة
روى البخاري في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((جَلَسَ إحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَتَعَاهَدْنَ وتَعَاقَدْنَ ألَّا يَكْتُمْنَ مِن أخْبَارِ أزْوَاجِهِنَّ شيئًا:
قالتِ الأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ، علَى رَأْسِ جَبَلٍ، لا سَهْلٍ فيُرْتَقَى، ولَا سَمِينٍ فيُنْتَقَلُ.
قالتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لا أبُثُّ خَبَرَهُ، إنِّي أخَافُ ألَّا أذَرَهُ، إنْ أذْكُرْهُ أذْكُرْ عُجَرَهُ وبُجَرَهُ.
قالتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِيَ العَشَنَّقُ؛ إنْ أنْطِقْ أُطَلَّقْ، وإنْ أسْكُتْ أُعَلَّقْ.
قالتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لا حَرٌّ ولَا قُرٌّ، ولَا مَخَافَةَ ولَا سَآمَةَ.
قالتِ الخَامِسَةُ: زَوْجِي إنْ دَخَلَ فَهِدَ، وإنْ خَرَجَ أسِدَ، ولَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ.
قالتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إنْ أكَلَ لَفَّ، وإنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وإنِ اضْطَجَعَ التَفَّ، ولَا يُولِجُ الكَفَّ لِيَعْلَمَ البَثَّ.
قالتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ - أوْ عَيَايَاءُ - طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ له دَاءٌ، شَجَّكِ أوْ فَلَّكِ أوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ.
قالتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي المَسُّ مَسُّ أرْنَبٍ، والرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ.
قالتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ العِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النَّادِ.
قالتِ العَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ، وما مَالِكٌ؟! مَالِكٌ خَيْرٌ مِن ذَلِكِ، له إبِلٌ كَثِيرَاتُ المَبَارِكِ، قَلِيلَاتُ المَسَارِحِ، وإذَا سَمِعْنَ صَوْتَ المِزْهَرِ، أيْقَنَّ أنَّهُنَّ هَوَالِكُ.
قالتِ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أبو زَرْعٍ، وما أبو زَرْعٍ؟! أنَاسَ مِن حُلِيٍّ أُذُنَيَّ، ومَلَأَ مِن شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إلَيَّ نَفْسِي، وجَدَنِي في أهْلِ غُنَيْمَةٍ بشِقٍّ، فَجَعَلَنِي في أهْلِ صَهِيلٍ وأَطِيطٍ، ودَائِسٍ ومُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أقُولُ فلا أُقَبَّحُ، وأَرْقُدُ فأتَصَبَّحُ، وأَشْرَبُ فأتَقَنَّحُ، أُمُّ أبِي زَرْعٍ، فَما أُمُّ أبِي زَرْعٍ؟! عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابنُ أبِي زَرْعٍ، فَما ابنُ أبِي زَرْعٍ؟! مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، ويُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الجَفْرَةِ، بنْتُ أبِي زَرْعٍ، فَما بنْتُ أبِي زَرْعٍ؟! طَوْعُ أبِيهَا، وطَوْعُ أُمِّهَا، ومِلْءُ كِسَائِهَا، وغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أبِي زَرْعٍ، فَما جَارِيَةُ أبِي زَرْعٍ؟! لا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، ولَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، ولَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا، قالَتْ: خَرَجَ أبو زَرْعٍ والأوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِيَ امْرَأَةً معهَا ولَدَانِ لَهَا كَالفَهْدَيْنِ، يَلْعَبَانِ مِن تَحْتِ خَصْرِهَا برُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِي ونَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا، وأَخَذَ خَطِّيًّا، وأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وأَعْطَانِي مِن كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وقالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ ومِيرِي أهْلَكِ، قالَتْ: فلوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أعْطَانِيهِ، ما بَلَغَ أصْغَرَ آنِيَةِ أبِي زَرْعٍ.
قالَتْ عَائِشَةُ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ)).
في هذا الحديث صورة لأنماط مختلفة من الأزواج، رصدْتها ولخصَّتها في إيجاز بليغ إحدى عَشْرَةَ امرأةً، يمكن من خلال هذا الرصد أن نتعرف على أنواع الأزواج من منظور الزوجات، لا سيما وقد تَعَاهَدْنَ على الصراحة في الوصف والقول، فماذا قُلْنَ؟
قالتِ الأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ، علَى رَأْسِ جَبَلٍ، لا سَهْلٍ فيُرْتَقَى، ولَا سَمِينٍ فيُنْتَقَلُ.
أي: زوجي كلحم جمل مهزول على جبل وَعْرِ الصعود؛ أي إنه لحم لا يستحق مشقة الصعود العالي لجبل شاقٍّ مرهق؛ أي: إنه – باختصار - رجل صعب الوصول إليه، وعلى الرغم من صعوبة الوصول والتلاقي معه فكريًّا، فهو لا خير فيه.
فهذا لون من الرجال متكبِّر، وليس لديه ما يدعوه لذلك، تجد فيه المرأة مشقة كبيرة في الوصول إلى قلبه وخاطره، على الرغم من أنه ليس بالرجل ذوي المكان والمكانة التي يكون فيها بتلك المشقة في الوصول إليه، فيصدُق عليه المثل العربي: "أنْفٌ في السَّماءِ واسْتٌ فِي الماءِ".
قالتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لا أبُثُّ خَبَرَهُ، إنِّي أخَافُ ألَّا أذَرَهُ، إنْ أذْكُرْهُ أذْكُرْ عُجَرَهُ وبُجَرَهُ.
أي: إنها تريد أن تقول: إن الحديث في صفات زوجها يطول؛ حيث إن عيوبه الظاهرة والباطنة تحتاج لوقت لسردها.
فهذا لون من الأزواج، تتضاعف عليه العيوب الظاهرة (الجسدية) والباطنة (الأخلاقية)، بحيث تبحث المرأة عن حسنة وسط هذا الرُّكام من العيوب فلا تجد، ومع هؤلاء الرجال تعيش الزوجة مكرهة مضطرة، بمنطق مجتمعي: "ظل رجل ولا ظل حائط".
قالتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِيَ العَشَنَّقُ؛ إنْ أنْطِقْ أُطَلَّقْ، وإنْ أسْكُتْ أُعَلَّقْ.
أي: إن زوجي رجل طويل، وهذا الطول ليس فيه منفعة، فحالي معه على أسوأ حال، فإذا تكلمتُ سيُطلِّقني؛ لأنه نَزِقٌ، وإن سكتُّ أصبحت كمن لا زوج لها، في بُعْدِه وهِجرانه، فيكون حالي معلَّقًا معه.
هذا اللون من الرجال صعب الْمِراس، فتحتار المرأة في التعامل معه، فلو استرسلتْ في الحديث كان مصيرها الطلاق، وإن صمتتْ باتت معلَّقة.
قالتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لا حَرٌّ ولَا قُرٌّ، ولَا مَخَافَةَ ولَا سَآمَةَ.
أي: إن زوجي يشبه ليلَ تِهامة في اعتداله، لا حرَّ ولا بردَ، كذا زوجي، معتدل المزاج، لا تشعرين معه بسخونة المزاج، ولا برودة المشاعر، فهو إلى الدفء أقرب، ومن ثَمَّ لا تخافين من مسامرته، ولا تسأمين مجالسته.
فهذا الرجل مثاليٌّ في أخلاقه الفاضلة، لا نزقٌ فيُهجر، ولا باردٌ فيُمَل.
قالتِ الخَامِسَةُ: زَوْجِي إنْ دَخَلَ فَهِدَ، وإنْ خَرَجَ أسِدَ، ولَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ.أي: إن زوجي حينما يدخل البيت ينام نوم الفهد، وإذا خرج فيكون كما السباع رجولة وشجاعة، ويتغافل، فلا يسأل عن كل ما تركه في البيت من متاع وغيره، تاركًا لي حرية التصرف في كل أمور البيت.
هذا رجل ترك لزوجته التصرف في أمور بيتها كما يطيب لها، لا يكدِّرها بالسؤال عن الأمور المنزلية، أين ذهبت هذه؟ وما مصير تلك؟ حرصه الأساسي أن يلقى راحة في بيته، فلا يُنغص عليه في نومه، وإذا ما خرج ليخالط الناس كان حاسمًا حازمًا مهيبًا.
قالتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إنْ أكَلَ لَفَّ، وإنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وإنِ اضْطَجَعَ التَفَّ، ولَا يُولِجُ الكَفَّ لِيَعْلَمَ البَثَّ.
أي: إن زوجي حينما يأكل يتناول كل ما على المائدة من الطعام، فيلف على كل أنواعها لا يستثني، وإذا شرب أتى على آخر القَدحِ، ورجل أكول بهذه الشهية يُتوقَّع معه أن يكون عطاؤه لزوجته على مقدار ما أكل، من باب "أطعم الحمار ثم كُدَّه".
لكن الرجل كان مخيِّبًا لآمال المرأة، فبعد هذا الأكل ينام في لحاف خاصٍّ به، ولا يكلف نفسه ليضع كفه على كتف زوجته ليعرف ما بها إذا ما ظهر عليها الحزن وكسافة البال!
فهذا لون من الرجال مشدود من أمعائه، كل تركيزه على شهوة البطن والنوم، لا يلتفت إلى من حوله، فهو جافٌّ عاطفيًّا.
قالتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ - أوْ عَيَايَاءُ - طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ له دَاءٌ، شَجَّكِ أوْ فَلَّكِ أوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ.
أي: إن زوجي به عيٌّ في الكلام، أو هو رجل شرير، لا حظَّ لي معه، إما أن يشجَّ رأسي بضربه، أو يكسِر عظامي، أو يجمع بين شج الرأس وكسر العظام؛ أي: إنه رجل ضرَّاب.
وهذا صنف من الأزواج لا يتعامل بالعقل أو المنطق، كل تعاملاته مركَّزة في أطرافه الأربعة، بالإضافة إلى لسانه الفالت؛ فتلقَى منه الزوجة كل أذًى
قالتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي المَسُّ مَسُّ أرْنَبٍ، والرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ.
أي: إن زوجي رجل أنيق في مظهره حيث العطر الطيب، والملمس النظيف
وهذا لون من الرجل يهتم بمظهره بشكل لافت، فلا يرضى إلا بأفخم الثياب، ولا تجد منه إلا أطيب العطور.
قالتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ العِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النَّادِ.
أي: إن زوجي من بيت عزٍّ وحسب، وذو قامة طويلة، رماده كثير من كثرة إطعامه للضِّيفان، ولرغبته في الكرم والجود، لم يجعل بيته على أطراف البلدة، وإنما قريب من الناس.
هذا رجل اجتماعي، لا يحب أن يعيش إلا مخالطًا للناس، بابه مفتوح للأقارب والأباعد، يطلبه الأهل والجيران في معاونتهم على قضاء حوائجهم، فلا يرُدُّهم.
قالتِ العَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ، وما مَالِكٌ؟! مَالِكٌ خَيْرٌ مِن ذَلِكِ، له إبِلٌ كَثِيرَاتُ المَبَارِكِ، قَلِيلَاتُ المَسَارِحِ، وإذَا سَمِعْنَ صَوْتَ المِزْهَرِ، أيْقَنَّ أنَّهُنَّ هَوَالِكُ.
أي: إن زوجي رجل كريم، له إبل كثيرة بجوار البيت، وقليل منها يذهب للرعي، وفي ذلك إشارة لكرمه، أي: إنه يستبقي أكبر قدر من تلك الإبل بجوار البيت لكي يقدمها للضيوف، ولا يحتاج لوقت حتى يأتي بها من مراعيها.
والإبل من كثرة تكرار هذا الفعل منه، بمجرد أن يسمعن صوت المزهر، يَعْلَمْنَ أنهن في طريقهن للذبح.
وهذه نظرية في علم النفس تعرف بـ"الارتباط الشرطي"؛ الربط بين المثير والاستجابة، جربها عالم النفس "بافلوف" على الكلب؛ حيث كان يقرع الجرس قبيل أن يقدِّم له الطعام، وباستمرار هذا الربط بين قرع الجرس وتقديم الطعام، بات الكلب يسيل لعابه بمجرد قرع الجرس، وقبل أن يرى أي طعام؛ لأنه وعى أنه بُعيدَ قرع الجرس يقدَّم الطعام.
وهذا الصِّنف من الرجال يحب الأُنس والسهر والسمر، ويأنَس بضيوفه وجلسائه، فتجد جموع الأصدقاء ملتقاهم عندهم، وراحتهم في ضيافته، فلا يبخل عليهم بما لديه من خير.
قالتِ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أبو زَرْعٍ، وما أبو زَرْعٍ؟! أنَاسَ مِن حُلِيٍّ أُذُنَيَّ.
أي: زيَّنني بالحلي حتى إن أذني كادت تُشَقُّ من ثقل الأقراط.
ومَلَأَ مِن شَحْمٍ عَضُدَيَّ؛ أي: قدَّم لي من الطعام أطيبه، حتى حملتُ الشحم.
وبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إلَيَّ نَفْسِي؛ أي: عظَّمني فتعظمت في نفسي، وأخذت الثقة.
وجَدَنِي في أهْلِ غُنَيْمَةٍ بشِقٍّ؛ أي: أخذني من بيئة فقيرة تعيش على الغنم بشق الأنفس.
فَجَعَلَنِي في أهْلِ صَهِيلٍ وأَطِيطٍ، ودَائِسٍ ومُنَقٍّ؛ نقلني نقلة نوعية، حيث: الفرس الكثيرة، والجمال، والمراعي الخصبة، كما أنه كان رجلًا ثريًّا، ومن مظاهر ثرائه أنه لديه في بيته مُنَقًّا.
المُنَقُّ: هو المُنخل، الذي ينخل به الطحين، ولعلك تستغرب في أن هذا من مظهر الثراء، ولكيلا تطول دهشتك؛ أقول لك: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَرَ المُنَقَّ.
فَعِنْدَهُ أقُولُ فلا أُقَبَّحُ، وأَرْقُدُ فأتَصَبَّحُ، وأَشْرَبُ فأتَقَنَّحُ؛ كلما أتحدث معه لا يقبِّح حديثي، وإذا نِمْتُ فلا أصحو إلا بعد الضُّحى، فلا مشاغل عندي من حلب الشِّياه والنِّياق؛ حيث يقوم غيري بها، وحينما أجلس معه للشراب أشرب فأرتوي.
أُمُّ أبِي زَرْعٍ، فَما أُمُّ أبِي زَرْعٍ؟! عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وبَيْتُهَا فَسَاحٌ؛ صندوقها ملآن بكل ما هو جميل وعزيز، وبيتها فسيح، دليل على العز.
ابنُ أبِي زَرْعٍ، فَما ابنُ أبِي زَرْعٍ؟! مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، ويُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الجَفْرَةِ؛ أي: إنه رفيع رشيق مستقيم في طوله مثل سعف النخل، ليس نَهِمًا في مأكله، وليس ثقيلَ الظِّلِّ.
بنْتُ أبِي زَرْعٍ، فَما بنْتُ أبِي زَرْعٍ؟! طَوْعُ أبِيهَا، وطَوْعُ أُمِّهَا، ومِلْءُ كِسَائِهَا، وغَيْظُ جَارَتِهَا؛ بنت أبي زرع من ضَرَّتِها، بنتٌ مطيعة لأبيها وأمها، ممتلئة الجسم؛ حيث كان العرب يعتبرونه من الجمال حينئذٍ، الأمر الذي يجعل جارتها تغتاظ من طلَّتِها البهِيَّة.
جَارِيَةُ أبِي زَرْعٍ، فَما جَارِيَةُ أبِي زَرْعٍ؟! لا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، ولَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، ولَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا؛ أي: جارية كتومٌ، فلا تنقُل أخبار البيت خارجه، ولا تُفسد معيشة البيت بتبذيرها، وتتعاهد البيت بالترتيب والتنظيف، فلا يدخله القشُّ وغيره.
قالَتْ: خَرَجَ أبو زَرْعٍ والأوْطَابُ تُمْخَضُ؛ خرج في وقت الصباح الباكر حيث يقوم النساء بخضِّ اللبن.
فَلَقِيَ امْرَأَةً معهَا ولَدَانِ لَهَا كَالفَهْدَيْنِ، يَلْعَبَانِ مِن تَحْتِ خَصْرِهَا برُمَّانَتَيْنِ (ثدييها)، فَطَلَّقَنِي ونَكَحَهَا! أي: كانت المرأة ولودًا؛ حيث لها صغيران كالفهد في تكوينه، والمرأة محافظة على أنوثتها حيث لها نَهْدَانِ كالرُّمَّان.
فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا، وأَخَذَ خَطِّيًّا؛ أي: رجلًا ذا شرف وسيادة، معه رمحه، دليل على شجاعته.
وأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وأَعْطَانِي مِن كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وقالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ ومِيرِي أهْلَكِ؛ أي: كان واسع الكرم، فكان يأتي من الأشياء بزوجين، لبيتنا واحدة ولأهلي مثلها، أي: إنه كان مبالغًا في إكرامه أهلي.
قالَتْ: فلوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أعْطَانِيهِ، ما بَلَغَ أصْغَرَ آنِيَةِ أبِي زَرْعٍ.
وهذا الصنف من الأزواج (أبو زرع) رجل شهم نبيل، يعطي زوجته دون مَنٍّ، لا يُعيِّرها بفقر أهلها، ولا يستقوي عليها، ودودٌ، يسمع بحبٍّ، ورجل بهذه الصفات لا تملك المرأة إلا أن تحبَّه، ويتعلق قلبها به، حتى بعد أن يفترقا، فما زال الإحسان يدُقُّ العُنُقَ.