ديمة محبوبة
عمان - يجلس خالد، وهو أب لأربعة أبناء تتراوح أعمارهم بين 6 و16 عاما، مع نفسه متأملا، يتحدث بصوت خافت وهو يحتسي قهوته.
يقول: "كنت أظن أن دوري كأب يقتصر على التوجيه، الحزم، وضع القواعد، وتكرار الجملة المعتادة.. أنا أفعل هذا لمصلحتك. لكنني اكتشفت متأخرا أن ما كان ينقص بيني وبين أطفالي هو المشاركة؛ مجرد أن أجلس وأتحدث عن نفسي، عن أحلامي، عن خوفي أحيانا، وأن أضحك معهم".
قصة خالد تشبه قصص عشرات الآباء والأمهات الذين بدأوا في الأعوام الأخيرة رحلة تغيير نمط العلاقة التقليدية مع أبنائهم، من علاقة قائمة على الواجب والمسؤولية والإملاء، إلى علاقة أكثر إنسانية، تتسم بالمشاركة والمتعة والتبادل الحقيقي للتجارب والمشاعر.
والمحرك لذلك أن الطفل لم يعد فقط من يسأل عن يومه، علاماته وأصدقائه، بل بات يسأل أيضا: "ماذا فعلت اليوم يا أبي أو يا أمي؟ هل استمتعت بوقتك؟ هل لديك صديق مقرب؟".
في مجتمع تقاليده تضع الوالدين في موقع السلطة دائما، بات التحول اليوم ضرورة للدخول في تفاصيل حياة الأبناء والتواجد أكثر. وهذا التحول يحتاج إلى مرونة وشجاعة وتفكير نقدي عميق.
وتقول المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني: "إن العلاقة بين الأهل وأبنائهم يجب أن تتخطى نمط السؤال والجواب والحرص الدائم على معرفة التفاصيل اليومية، لتصل إلى مساحة من الشراكة الحقيقية التي يعبر فيها الطرفان عن ذاتهما، لا أن يشعر الطفل بأن عليه فقط أن يرضي والديه من دون أن يعرف عنهما شيئا سوى أنهما صاحبا القرار".
وتؤكد الكيلاني أن الوجود مع الأبناء لا يعني فقط السؤال المتكرر: هل أكلت؟ هل أنجزت؟ بل أحيانا يعني أن تصمت لتسمع، أن تسأل لا لتتلقى إجابة سريعة، بل لتفهم ما يدور فعلا في داخل الطفل.
ومن وجهة نظرها، فإن هذا النوع من العلاقة يعزز ثقة الطفل بنفسه، ويمنحه شعورا بأن الحديث مع الأهل ليس واجبا أو اختبارا، بل مساحة حقيقية للتعبير والتبادل والتعلم المتبادل.
تتحدث عائشة، وهي أم لطفلين، عن لحظة فاصلة في علاقتها بابنتها الكبرى. تقول: "في أحد الأيام سألتني ابنتي: ماما، شو كنتِ تحبي تعملي وإنت صغيرة؟ تفاجأت أنني لم أجب مباشرة. لم يسألني أحد هذا السؤال من قبل، ولم أعرف أن لديها هذا الفضول عن حياتي. فتحدثت عن حبي للرسم، وعن إصرار والدي على تعلمي العزف، وعن أول مرة رفضت فيها من فريق كرة السلة في المدرسة".
تقول "ظلت تسمعني بدهشة، وحب، وفضول. وفي اليوم التالي أخبرتني أنها تريد أن ترسم، وسألتني إن كنت سأرسم معها"، مضيفة أنها في تلك اللحظات الصغيرة، شعرت بمدى عمق المشاركة والقرب، وأن ابنتها باتت تأتي إليها لتستشيرها وتتحدث معها دائما.
وتبين الكيلاني أن هذه المشاركات البسيطة بين الوالدين وأبنائهما تحدث فرقا هائلا في نظرة الطفل لهما، إذ لا يعود الوالد أو الوالدة مجرد مصدر للأوامر، بل لديهما مشاعر وتجارب، وحياة سابقة عاشاها بكل تفاصيلها، ما يفتح الباب أمام الطفل لبناء علاقة أقرب وأكثر متانة.
ووفق الكيلاني، فإن أحد المفاتيح الأساسية لهذا التغيير هو أن يتحدث الأهل عن أنفسهم بصدق، وأن يعبروا عما يحبونه، وما يزعجهم أحيانا، وعن طفولتهم، وحتى عن نقاط ضعفهم.
وتقول: "حين يبدأ الأب والأم بمشاركة ما يحبانه، أو يخبران أبناءهما أنهما يستمتعان بالرسم أو العزف أو حتى الجلوس بهدوء في نهاية اليوم، يبدأ الطفل بالشعور أن العلاقة لا تقوم فقط على التقييم، بل على التبادل. وهنا يحدث التغيبر الحقيقي في التربية".
لكن هذا التغيير ليس سهلا ولا سريعا، بل يتطلب شجاعة داخلية من الأهل للاعتراف بأن الصورة التقليدية للأب الصارم أو الأم الموجهة لم تعد كافية لبناء جسر عاطفي متين.
وتؤكد الكيلاني أن التربية الحديثة لا تعني فقدان السلطة، بل تعني إعادة تعريف هذه السلطة بشكل أكثر وعيا، وأكثر شفافية، لا على أساس الخوف أو الإملاء.
ويبين اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي، أن جيل اليوم مختلف، فهو أكثر جرأة من الأجيال السابقة، ولا يخاف الاقتراب إذا فتح له المجال من قبل والديه، كما أنه أكثر إصرارا على الفهم، لا على التلقي فقط، ويلح أحيانا في طلب الإجابة.
ويضيف أنه في وقت يتغير فيه العالم بسرعة، وتتشكل فيه شخصيات الأطفال وسط ضغوط نفسية ومؤثرات خارجية هائلة، تصبح الأسرة هي المكان الأول الذي يجب أن يشعر فيه الطفل بالانتماء، والأمان، والاحترام.
ويقول "إن هذه المشاعر لا تبنى بالإجبار، ولا بالمكافآت فقط، بل من خلال تجربة حقيقية من التلاقي الإنساني بين الأهل وأبنائهم. فحين يجلس الأب مع ابنته ويقول لها مثلا: كنت أحب أن أكتب الشعر، لكنني خفت من رأي الآخرين، فهو لا يفتح فقط نافذة على ماضيه، بل يفتح بابا لطفلته لتقول: وأنا أيضا، لدي شيء أخاف أن أقوله".
وبهذه الطريقة، تصبح العائلة ليست فقط إطارا للحياة، بل الحياة نفسها. ويصبح البيت ليس ساحة للواجبات والأوامر، بل مسرحا للقصص، والضحكات، والاعترافات، والخيبات، والتجارب التي تروى معا، بحسب خزاعي.