ديمة محبوبة

عمان - تجلس رنا أم لطفلين، في منزلها تحاول تهدئة نفسها بعد نوبة غضب غير مبررة انفجرت فيها على ابنها ذي السبعة أعوام، فقط لأنه أسقط كوبا من الماء على الأرض.

بعد دقائق من صمت ثقيل، تسأل نفسها: "لماذا أفقد أعصابي بهذه السرعة؟ ولماذا أشعر بهذا القلق الدائم؟". تتذكر والدتها، التي كانت تصرخ لأبسط الأسباب، تتوتر من كل تفصيل وتعيش على أعصابها طوال الوقت.

رنا ليست وحدها من تكرر سلوكيات تربّت عليها دون وعي، بل ورثتها كأنها جزء من تكوينها. ففي بيوت كثيرة، تمرر المشاعر كما تمرر الملامح والصفات الوراثية، فيورث القلق والتوتر والغضب من جيل إلى جيل، من دون أن يدرك الأهل أنهم يسقون أبناءهم من الكأس نفسها التي تجرعوها في طفولتهم.

اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي يؤكد أن الأسرة هي النواة الأولى لتكوين شخصية الطفل، وهي البيئة التي يتعلم فيها كيف يعبر عن مشاعره ويتعامل مع الضغوط.

ويقول: "حين يعيش الطفل في بيئة مشحونة بالتوتر والقلق والغضب، يكتسب هذه المشاعر بشكل لا واع، ويعتبرها جزءا طبيعيا من الحياة، ويرى أنها الطريقة الوحيدة للتفاعل مع المواقف الصعبة، فينمو وهو يكررها من دون أن يسأل نفسه إن كانت صحيحة أو مؤذية".

ويشرح أن ما يحدث ليس مجرد تقليد سلوكي، بل هو تكرار لنمط عاطفي، يغرس في نفس الطفل شعورا دائما بعدم الأمان. فالأهل الذين لا يملكون القدرة على ضبط انفعالاتهم، أو يعانون من قلق مزمن دون علاج، ينقلون هذه الحالة لأبنائهم من خلال تفاصيل الحياة اليومية: نبرة الصوت المرتفعة، الكلمات السلبية، التوقعات المبالغ بها، أو حتى الصمت المتوتر.

تشير المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني إلى أن القلق والغضب الموروثين ليسا مجرد استجابات وقتية، بل قد يتحولان إلى نمط حياة راسخ لدى الطفل عندما يكبر.

وتوضح أن الطفل الذي يرى والده يصرخ عند كل مشكلة صغيرة، أو والدته تنهار تحت ضغط التفاصيل اليومية، يتعلم أن العالم مكان غير آمن، وأن الانفعال هو الطريقة الوحيدة لمواجهة الصعوبات. ومع تكرار هذه المشاهد، تتشكل داخله برمجة نفسية تدفعه إلى التعامل مع الحياة إما بحذر مفرط أو على العكس، بانفجارات غضب مفاجئة.

وتضيف الكيلاني أن تأثير هذا النمط لا يقتصر على الجانب النفسي فقط، بل يمتد إلى نواح أخرى من حياة الطفل، كضعف الثقة بالنفس، والخوف من التغيير والقلق الاجتماعي، وصعوبة بناء علاقات صحية لاحقا. ومع استمرار أنماط التربية ذاتها، يعاد إنتاج جيل جديد يحمل الجروح العاطفية ذاتها التي لم يتح لأهله معالجتها.

من جانبه، يشير الدكتور حسين خزاعي إلى أن دراسات حديثة أثبتت وجود علاقة وثيقة بين الصحة النفسية للأهل وسلوكيات الأبناء. ويقول: "هناك أبحاث تظهر أن الأطفال الذين نشأوا في بيئات يسودها التوتر المزمن هم أكثر عرضة للإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب، كما أن لديهم استجابة فيزيولوجية أعلى للضغوط، ما يجعل أجسامهم في حالة تأهب دائم تؤثر على نموهم وصحتهم الجسدية والعقلية على المدى الطويل".

ويؤكد أن المشكلة الكبرى تكمن في أن كثيرا من الأهل لا يدركون أن ما يعدونه "طبيعتهم" هو في الواقع نمط يحتاج إلى وعي ومعالجة.

فالأب الذي يصف نفسه بأنه "عصبي بطبعه"، أو الأم التي تعد أن "القلق جزء من الأمومة"، لا يتركان مجالا لتغيير هذا السلوك المؤذي.

ويختم خزاعي بالقول: "لا أحد يولد غاضبا أو قلقا، بل يتعلم ذلك من محيطه. وحين لا يمتلك أدوات التعامل الصحي مع مشاعره، يبدأ بنقلها كما هي.

ووفق الكيلاني فإن الاعتراف هو الخطوة الأولى لكسر هذه السلسلة الممتدة من القلق والغضب، موضحة أن الأهل حين يعترفون بأنهم يعانون من قلق مزمن أو نوبات غضب خارجة عن السيطرة، يكونون قد بدأوا بالفعل أول طريق التغيير. وهنا، لا بد من تزويدهم بالأدوات لفهم مشاعرهم، ومعرفة الفرق بين القلق الطبيعي والقلق المرضي، وبين الغضب الصحي والغضب التدميري.

وتقترح الكيلاني إدماج برامج دعم نفسي وتربوي للأهل ضمن أنظمة التعليم المجتمعي، حتى لا تبقى التربية مجرد غريزة أو تكرارا لتجارب الطفولة، بل تصبح رحلة وعي مستمرة. كما تدعو إلى تعزيز ثقافة العلاج النفسي، والتشجيع على طلب المساعدة دون خجل، لأن "حين يشفى الأهل.. ينجو الأبناء".

رنا، الأم التي بدأت بها القصة، قررت أخيرا أن تبدأ جلسات دعم نفسي. لم يكن القرار سهلا، لكنها كما تقول: "تعبت من أن أكرر على أطفالي صراخي وتوتري وخوفي الدائم. لا أريدهم أن يحملوا هذا الإرث عني".

كان الدافع الأكبر حين بدأت تلاحظ أن ابنها بات يقلدها حتى في نبرة الصوت، فخافت أن يعيش داخل قلقها المستمر. وتقول: "أنا لا أستطيع تغيير طفولتي، لكنني أستطيع أن أضمن لأطفالي طفولة مختلفة، تبدأ حين أتحرر من هذا الإرث".

فالقلق والغضب والتوتر ليست مشاعر خفية لا تُرى، بل عدوى تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية، تكتب في نظرات الأهل، وتحفر في وجدان الأبناء.

وبحسب المختصين، فإن حبنا لأطفالنا وحده لا يكفي لحمايتهم، ما لم نواجه نحن ما نحمله من أثقال. لا بد أن نعيد تشكيل مشاعرنا، ونكسر دائرة التوريث العاطفي المؤلم، لأن الطفل لا يختار ما يتعلمه، لكنه حتما سيعيد إنتاجه.. ما لم نجد نحن الشجاعة والقدرة لكي نتوقف ونتغير.

JoomShaper