دخلَتْ عليّ غاضبة يتطاير الألم من عيونها.. سأهجره هجراً مليّا! جلسَتْ وأخذَتْها لحظة من تأمّل قبل أن تفجِّر مكنون نفسها.. “لم أعد أُطيق.. أصبحتُ مستهلكة تماماً! صبرتُ كثيراً ولم أعد قادرة على العطاء! حتى أني لم أعد أطيق أن يلمسني.. لست مضطرة أن تلعنني الملائكة من أجله.. كيف أعيش معه وأنا لا أستطيع أن أحترمه لاستغلاله لي؟! هذا

فراقٌ بينني وبينه!”
حاولت امتصاص غضبها وحنقها دون جدوى.. فقد كانت مُثقلةً بالأسى.. عرفتها حتى قبل أن تتزوج شعلةً من “حياة”! اختارت زوجها ولم يكن غنياً وقررا أن يبنيا “معاً” عشّهما ويصبرا على السراء والضراء لينجزا مشروع هذه المؤسسة الصغيرة في جوٍّ من المودة والرحمة والمشاركة.. مرّا بمطبّات كثيرة اضطرت حينها أن تبيع كل ما تملك من ذهبٍ ومصاغ مع أنها كانت تحب حليّها جداً ولكنها ضحّت بها عدة مرات من أجل عائلتها.. وكم تغيّرت بعد الزواج فلم تعد تلك الفتاة التي تلفت الأنظار بأناقتها ومظهرها فأصبحت أقل من عادية ما أثّر سلباً على نفسيتها في وقتٍ من الأوقات.. لم يكن مدخول زوجها المادي كبيراً ما جعله يعتمد على راتبها بشكل أساس.. وفي الفترة الأخيرة ضاق حاله أكثر وتراكمت عليه الديون فكثّفت ساعات دوامها واستطاعت بفضل الله تعالى أن تغطي الدَّين ولكن على حساب أعصابها وراحتها وليته يكون ممنوناً لها!.. كانت تخرج من العمل متأخرة لتعود إلى مسؤولياتها في البيت وتعليم أولادها والطبخ والأعمال المنزلية.. حتى إذا ما جنّ الليل ولم تعد تقوَ على الحركة جاءها يطلب حقه الشرعي فترفض لشدة تعبها ويصيبها من النكد ما يصيبها.. إذ فوق كل ما تتحمله ستلعنها الملائكة حتى تُصبِح!!

هذه المنظومة ليست خاصة بهذه الأخت.. وإنما هي مشكلة متكررة في العديد من البيوت التي تعمل فيها الزوجة في الداخل والخارج.. فكيف إن كانت هذه الزوجة التي تقاسي الأمرّين لتقوم بواجباتها “وأكثر” تجاه عائلتها لا تسمع كلمة من زوجها ترفع من معنوياتها ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله!

تخبرني إحداهنّ أنها كانت تعطي زوجها من أيام العقد راتبها كاملاً ليدّخره من أجل بناء عشّهما معاً.. فكان يتضايق ويخبرها أنه لا يريد أن يقرب مالها وأنه حقّ لها وأنه هو الرجل ومَن عليه النفقة.. فكانت تقنعه أنهما “واحد”! حتى إذا ما تزوجا وأصبحا في بيتهما وأتى أول الشهر سألها بكل “وقاحة” أين الراتب؟ وكأنه حقّ مكتَسَبٌ له.. فيأخذه ويعطيها منه كل يوم ما يكفيها لأجرة الطريق وأحياناً ينسى فتضطر للعودة إلى البيت ماشية على قدمَيْها والدموع تنفر من عيونها! ناهيك عن عدم تأمين متطلباتها الأساسية حتى أن أهلها كانوا يشترون لها الثياب ويؤمّنون لها الأطعمة..

بين إفراطٍ وتفريط تترنّح أُسرُنا حتى باتت مشكلات كثيرة تنبع من هذه القضية.. فهذه تعطي راتبها ولا تحتفظ بأقل القليل لنفسها.. وتلك لا تنفق أبداً من راتبها على البيت ولا تساعد زوجها حتى لو كان مثقلاً بالمصاريف والديون!

فالمرأة التي تعمل وزوجها بحاجة لأن تعينه فلا تساعد في النفقة -وإن كانت غير مكلّفة شرعاً بالإنفاق- فيها بعض من أنانية.. أوليست تقصّر في واجباتها تجاه بيتها أو زوجها بسبب هذا العمل؟ ألا يؤثّر إحجامها عن إعانة زوجها في مصاريف البيت على علاقتهما بحيث يشعر الزوج أنها غير آبهة بمشاكله ويبدأ بالشك في حبها له ويكون سبباً في تباعدهما عن بعضهما البعض؟!

لا شك أن الإسلام أكرم المرأة ولم يوجب عليها النفقة فمالها لها وحدها تنفقه كيفما ووقتما وأينما تشاء.. ولكن الحالة الاقتصادية أصبحت صعبة ما يستدعي أن تشارك المرأة زوجها في تحمّل أعباء الحياة ولكن عليها أن تفكر أيضاً بنفسها وتحتفظ ببعض راتبها لها ولحاجاتها الخاصة.. ولا تفرط في العمل لأنه ليس من واجبها إعالة العائلة بل هو واجب الزوج فإن هي أخذت هذا المنحى فسيركن الزوج إلى الراحة ويعتمد كلياً عليها وسيفقده هذا الأمر بعضاً من قوامته التي يتغنى بها.. هذا بالإضافة إلى عدم تمكّنها من القيام بواجباتها الزوجية على الوجه الذي يُرضي الله تعالى.. ولن تستطيع أيضاً القيام بمسؤولياتها المنزلية والاعتناء بالأولاد ولا حتى القيام بعباداتها كما يجب.. وبعد فترة ستقع فريسة التعب والمرض النفسي والجسدي.. فللجسد والقلب والروح حقوق على المرأة لا بد أن تغذّيها وإلا سقطت، وحينها سيفتّش الزوج ربما عن أُخرى لأن الأولى لم تعد تكفي مؤونته! متجاهلاً أو متناسياً أنه مَن أوصلها إلى هذه الحال! ناهيك عما قد ينتج من شجار وشقاق بين الزوجة والزوج بسبب تقصيرها في البيت أو غيرته لأنها مُنتِجة أكثر منه أو جشعه!

وبصِفة عامة فإنّ المرأة بطبعها عاطفية وهي مستعدة للعطاء من أجل سعادة عائلتها فلا أقل من أن تُشكَر وتُكرَم وتُراعى إن هي قدّمت عن طيب نفسٍ مالها وصحتها ونفسها قرباناً لهذه العائلة كما يقدِّم الزوج بل ربما أكثر.. فأغلب الأزواج حين يأتون البيت يريدون الغداء جاهزاً ومن بعده يرتاحون وينامون أو يخرجون من ثان ليتسامروا مع أصدقائهم.. أما المرأة فتأتي البيت بعد العمل لتحضِّر الغداء الذي أعدّته ليلاً ثم تعتني بالمنزل وبالأولاد وإن كانت تعمل في قطاع التعليم فعليها التحضير والتصحيح لليوم التالي.. فيكون نهارها عبارة عن جولات مكوكية لا تنتهي إلا بارتمائها في سريرها منهكة مجهَدة..

قد يقول قائل إن عمل المرأة الأساس في البيت وليست مضطرة إلى الخروج بل هو القرار في منزلها وعلى الزوج تدبير أمره.. ولو أنني مقتنعة تماماً بهذا الأمر إلا أنه يصعب على كثيرٍ من الناس الاقتناع أن رزق هذا البيت مقسوم، فحين تخرج المرأة يتوزّع هذا الرزق بين المرأة والرجل كما أخبرني شيخٌ في إحدى مناقشاتنا.. بل وترى بعض الخاطبين يبحثون عن معايير معيّنة في شريكة المستقبل تكون أهمها بعد الجمال طبعاً “الوظيفة”! فالحياة صعبة والمتطلّبات كثيرة –أغلبها كماليات- والغلاء مستشرٍ!

ما زلت أحِنّ إلى أيام جدي وجدتي رحمهما الله تعالى.. فجدي كان يعمل ويعيل البيت وجدتي لم تكن تطلب منه حتى مالاً لنفسها وكانت علاقتهما مميزة حتى آخر أيامهما ونسبة المشاكل بينهما كانت شبه معدومة أما اليوم فقد استشرت المشاكل والشجارات وارتفعت نسب الطلاق وأغلبها سببها مادي كما أكّدت لي محامية تعمل في المحكمة الشرعية..

وددتُ لو كان الزوج متعففاً.. ولو كانت المرأة متعاوِنة.. ولو راعى الزوجان حسن العشرة مادياً ومعنوياً.. ولو أنّ العلاقة بينهما سادها “الحب في الله” والخوف منه وحسن التوكل عليه فحينها ربما لخفّت كثيراً المشاكل ولعاشت الأسرة هانئة قانِعة في كنف الشريعة والدِّين!

 

 

سحر المصري

صحيفة المصريون

JoomShaper