قرأتُ مقالة يتحدّث كاتبها حديثا طيّبا عن انشغال قلب المؤمن بالله تعالى فقط، وذاك ما لا غبار على الحديث عنه، إنّما استوقفتني بين السطور عبارة يقول كاتب المقال فيها: (فالرجل إذا تعلّق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرا لها، تتحكّم فيه ويتصرّف بما تريد، وهو في الظاهر سيّدها لأنّه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيّما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها وأنّه لا يعتاض عنها بغيرها)، وتستهدف العبارة التحذير من مثل هذا التعلّق كيلا ينشغل قلب المؤمنعن الله تعالى!

وأذكر بين يدي هذه المقولة المستهجنة دعاءً أحبّه، يردّده عموم المسلمين لا سيّما أهل التصوّف، أو من هم في مرتبة "العارفين" الذين ورد ذكرهم في خاتمة تلك المقالة، وهو: (اللهم إنّي أسألك حبّك، وحبّ من يحبّك، وحبّ عمل صالح يقرّبني إلى حبّك)، ولم أشعر يوما بوجود تعارض أو حرج كبير أو صغير، في أن يتّسع القلب، وقد خلقه الله على ما هو عليه من سعة، لمحبة الله، والمحبّة في الله، وسائر ألوان المحبة التي أمر بها الله أو أباحها، ومنها ذاك الذي أفهمه من الآية الكريمة في سورة الروم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}-الآية 21- ومن المودّة تعلّق قلب الرجل بزوجه، وتعلقّ قلب المرأة بزوجها، وأن يُشعِرا بعضهما بعضا بذلك، وأنّ أحدهما لا يعتاض عن الآخر بسواه، إلاّ إذا شذّ عن الأرضية المشتركة التي جمعتهما، على محبّة الله وطاعته.
ولقد ورد في الحديث النصيحة للشاب أن يسعى للزواج ممّن يداعبها وتداعبه، ومن يتوخّى فيها أن يؤدم الله بينهما، وورد في شرح دعائه صلّى الله عليه وسلّم ألاّ يؤاخذه -عزّ وجلّ- فيما لا يملك، أنّها قسمة المحبة بين أزواجه!..
ثمّ.. علام يندر أن تخطّ أقلامنا عبارة مقابلة للعبارة المشار إليها من مثل: (فالمرأة إذا تعلّق قلبها برجل ولو كان مباحا لها يبقى قلبها … وأنّها تعتاض عنه بغيره)؟..
إنّ المحبّة بين الزوجين تندرج ضمن ألوان أخرى من المحبة التي أمر بها الإسلام، بين عامّة المسلمين، وجعل من سبلها تبادل الهدايا وإفشاء السلام وأن تريد للآخرين مثل ما تريده لنفسك، وما منعها صلّى الله عليه وسلّم وهو يبيّن حدودها لعمر الفاروق رضي الله عنه في الحديث، حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، بل حدّد مرتبتها، هذا علاوة على ما أمر به الشرع من محبة الوالدين، والأولاد، والأقربين، وجميع ذلك ممّا نفهمه تحت عنوان "الحبّ في الله".
ولكن يبدو أنّ القضية قضية نظرة منحرفة إلى "المرأة" بالذات في إطار تصوّر يُنسب إلى الإسلام، حول المجتمع والعلاقات بين أفراده، ولقد شوّه معالمها الغزو الاجتماعي والثقافي والفني والفكري لمجتمعاتنا، فأصبحت قضية تثير الحساسيات، وأصبحنا على شفا حافّة الوهم بصحّة ما يوهمنا به ذلك الغزو، من أنّ النساء في الإسلام لسن "شقائق الرجال" ولا هنّ مثلهم في حمل المسؤولية في الدنيا والآخرة، ولو كنّ على درب زوج فرعون المؤمنة ومريم بنت عمران سيدة نساء العالمين!
ليست المرأة المسلمة <المباحة> على شرع الله تعالى "متاعَ الرجل"، وما وضع الشرع في يده عصمة الزواج ليتصرّف بها كما يشاء، وما جعل الولاية للأب كي يرغم بنته على الزواج بمن لا تحبّ وترضى، ولقد وردت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في خطابها للمؤمنين، رجالا ونساء، على السواء، إلاّ ما اقترن بقرينة تخصّ بالنص أحد الجنسين دون الآخر، ولن يغني رجل مقصّر عن زوجه ولا امرأة مقصّرة عن زوجها شيئا يوم القيامة، وقد تستوعب المرأة من الإسلام وتطبّق ما لا يستوعبه زوجها ويطبّقه، فتكون أقرب إلى رضوان الله منه، وبالتالي أقرب منه أيضا إلى حمل المسؤولية في هذه الحياة الدنيا عن تثبيت الإسلام في الأسرة والمجتمع!..
إنّما يختلف هذا "التكافؤ" الإسلامي القويم بين الرجل والمرأة، والأعلى مرتبة من كلمة "مساواة".. يختلف مسؤوليةً وحقوقاً وواجبات، عن "مساواة مزيّفة" دعت إليها أفكار وضعية في الغرب وتسرّبت إلى بلادنا، وأقامت بين المرأة والرجل صراعا بدلا من "المودّة والرحمة"، فخرّبت العلاقات الأسروية والاجتماعية في الغرب، ولا نريدها أن تصنع ذلك في بلادنا، ولن نحول دون ذلك بالتطرّف في اتجاه معاكس، وإنّما عبر التوازن والتكامل والسموّ وتثبيت الحقوق والواجبات جنبا إلى جنب مع القيم والأخلاق، كما هدانا إلى ذلك ديننا الحنيف.
يجب أن تنطق خطبنا ومقالاتنا وعباراتنا على الدوام بما يقرّره الإسلام الحنيف، من أنّ للمرأة موقعها في المجتمع المسلم، وهو منضبط بضوابط الشرع، كما أنّ للرجل موقعه المنضبط بضوابط الشرع، هي كأمّ أو أخت أو بنت أو زوج، وهو أيضا كأب أو أخ أو ابن أو زوج، هي كعضو كامل المسؤولية في مجتمع تساهم في بنائه وفق ضوابط الشرع، وهو كذلك.
وأخشى -وذاك من دوافع هذه الخاطرة- أن تكون بعض العبارات غير المقصودة في بعض المقالات، وأن تكون بعض الأطروحات المقصودة بمحتواها المتشدّد باسم دين لا يعرف التشدّد بل السماحة والتعاطف والمودّة، أو بمحتواها المتطرّف باسم دين لا يقرّ التطرّف ولا التنطّع بل اليسر والتيسير والوسطية والاعتدال.. أخشى أن تكون سببا في "تضخيم" دور الرجل بما يتجاوز الحدود والتوجيهات الشرعية الحنيفة فينحرف المجتمع عن غايته، أو سببا في "تحجيم موقع المرأة" في الإسلام، بحدودٍ لم يفرضها الشرع، ولا يسمح بفرضها، وتوجيهات لم تصدر عنه ولا يمكن تأويلها عليه، فينحرف المجتمع عن غايته أيضا، وتُسدّ الأبواب أمام قيام المرأة المسلمة بدورها، ولا غنى عنه كما لا غنى عن دور الرجل فيه.
وأخشى أيضا أن يساهم انتشار هذه الظاهرة في إطار الفكر الإسلامي، في انتشار "نفور" من الإسلام نفسه، لا نريده، ولكن قد يستولي على صدور شبابنا وفتياتنا في ظلّ ما نشهد من غزو فكري خارجي، فيحجب عنهم الطريق القويم، وهم في مرحلة من العمر وعلى مستوى من العلم قد تجعلهم يحسبون كلّ ما يكتب باسم الإسلام، أنّه يعبّر عن حقيقة الإسلام وليس عن رأي فرد من المسلمين، مخلص أخطأ وذاك الأعمّ الأغلب، أو متقصّد وحسابه على الله العلاّم بالقلوب والنفوس. ولا ينبغي أن نخسر الشباب والفتيات في مجتمعنا الإسلامي قطعا، فنحن أحوج ما نكون إليهم، فهم الجيل الذي يُعقد عليه الأمل الكبير، في أن يصنعوا لهذا الدين في المستقبل القريب، ما عجز جيلنا نحن عن صنعه وتحقيقه من الأهداف المشروعة، وبناء دعائم الحياة الإسلامية الكريمة، والعودة إلى حمل رسالة الخير والهدى في حياة البشرية.

نبيل شبيب

موقع مداد القلم

JoomShaper