د. ديمة طارق طهبوب
لقد اهتم الإسلام بصلاح المجتمع وتماسكه في أحوال الشدة والرخاء، وشدد على التقوى في حال الخصومة والابتلاء أكثر من وقت التقارب والتآلف؛ ذلك أن إيمان المرء وحسن سلوكه يظهر في وقت المصيبة، فمن السهل أن يدعي الناس لزوم أمر الله في الفسحة، ولكن قليلا هم الذين يصبرون نفسهم مع الله عندما تشتد الأمور ويتمحص الناس ما بين المحسن والمؤمن والمسلم وما دون ذلك.
ومن هذه الأحوال والأوقات العصيبة الطلاق الذي هو مشكلة بحد ذاته، وحلال بغيض لعلاج شرخ أسري لا حل له إلا الكي، لذا كثر تكرار كلمة التقوى في سورة الطلاق التي تعرف بصورة النساء الصغرى.
وقليل ممن يدعون التدين يحسن تعامله عند الطلاق، زوجا كان أو زوجة أو من عائلة الحموين، ولعل نظرة سريعة إلى احصاءات المحاكم الشرعية وقضايا الطلاق تبين أن قليلين من يطبقون أمر الله في قوله: "فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف". وبالمقابل كثيرا ما نسمع في المجتمع عبارات من شاكلة "علقها حتى تمل وتتنازل لك عن كل حقوقها!" أو "زيدي النفقة لك ولأولادك وجرجريه في المحاكم حتى لا يستطيع التنفس والتفكير بزوجة أخرى!" أو "احرمها من الأولاد حتى تنغص عليها عيشتها" أو "ارمي الأولاد في وجهه حتى لا يستطيع التصرف" وغيرها من أشكال الحرب والانتقام والرد التي قد تستمر سنوات يأكل فيها الحقد من عمر المرء وأعصابه وعمله الصالح وحياة أسرته وأولاده، ويشعل الكراهية في مجتمع أراد له رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون كالجسد الواحد والبنيان المرصوص على اختلاف أحواله.

ولقد وضع القرآن علاجا يكفل أن يكون الطلاق ربانيا بأقل الخسائر، وسجلت السيرة عجبا عجابا من تعالي النفوس وصفائها حتى في هذا الموطن الصعب. وأولى خطوات العلاج القرآني الصبر الجميل، ويدخل فيه صبر الاستعانة وذلك في قوله تعالى "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون" والصبر يذكر بثمرة الصبار وشوكها المؤلم ولكن داخلها الماء والرطوبة، وهو حال من يصبر مع الله ويتحمل زوجته أو تتحمل زوجها إخلاصا لله وحفاظا على الأسرة وخواطر العيال، قد يتعبون كثيرا ولكن الاستعانة بالله والدعاء المستمر والإحسان المطرد لا بد أن يغير الأحوال والأخلاق ويذيب قسوة القلوب، ولقد نبه الرسول إلى ضرورة التقوى مع النساء فقال: "اتقوا الله في النساء...أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" والتقوى عمل قلبي لا يطلع عليها إلا الله وسقفها السماء ويتبع لها كل حُسن وكرم وخير، ويذكّر الإسلام الرجل بسابق عهوده لزوجته في مرحلة ما قبل المشاكل ووعوده بالحب والرعاية والحياة الهانئة إذ قال المصطفى: "أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج".

وقد فسر ابن عباس معاملة المرأة بالمعروف حسب الخطاب القرآني فقال: "وليس المعروف أن تمتنع عن أذاها، ولكن المعروف أن تحتمل الأذى منها" وهذا ما يقتضيه خلق الصبر الذي يتحمل سوء الخلق وتغير المزاج والنشوز وغيرها، وما نظن أن الرجل أعطي القوامة الا وهذه أحد أسبابها من ضبط النفس والاحتكام إلى العقل، في مقابل طغيان العاطفة على المرأة التي وصفت في الحديث "يرزقها الله زوجاً ويرزقها ولداً فتغضب الغضبة.. فتقول ما رأيت منك خيراً قط".

إن الصبر يقتضي من الرجل أن يفهم زوجته ولغتها وتغير أحوالها النفسية، فالمرأة عندما تغضب للقليل والكثير، قد يكفيها ويسكتها ويردها إلى الصواب كلمة طيبة وضمة حنونة لتتحمل روح الخل وصعوبة الأوضاع وعسر الدنيا، فالمرأة كما يقول علماء النفس المحدثون تحب وتكره وترضى وتغضب بأذنيها، والرجل كذلك له مفاتيح أخبرت الأعرابية ابنتها عنها ليلة زفافها فقالت "احفظي له خصالا عشرا يكن لك ذخرا. أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لموقع عينيه وانفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح، أما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة فالاحتراس بماله والإرعاء على حشمه وعياله، أما التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمرا ولا تفشين له سرا؛ فانك إن خالفت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمنى غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتما، والكآبة بين يديه إن كان فرحا".

والذين يتهمون الإسلام بالغلظة والرجعية في تقويم العلاقة الزوجية والتعامل مع المشاكل -ويحتجون بالآية التي ورد فيها لفظ الضرب في معالجة النشوز في قوله تعالى: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن" ويتناسون طرق الإصلاح الأولى ويقفزون لآخرها- لم ينظروا إلى سيرة الرسول الذي ورد عنه أنه لم يضرب غلاما ولا خادما ولا امرأة قط، ولكن التشريع يوضع حتى في أقصى درجاته لمعالجة كافة الأحوال البشرية، فمن البشر من تصلحه الكلمة والإشاره ومنهم من لا يفهم كالعبيد إلا بالعصي!.

وأما الخطوة الثانية عندما لا ينفع الصبر الجميل تكون بالهجر الجميل، والهجر كلمة وممارسة ثقيلة، فالإنسان سمي إنسانا لأنه يأنس بالناس ولذا فالهجر قاس على نفسه، والهجر مرحلة من مراحل الانفصال الزوجي، ولكن الإسلام قننها بوقت زمني محدد، وجعلها ثلاثة أيام بين الأصحاب والاخوة حتى تبقى جذوة المحبة والمودة مشتعلة، فكيف إذن تكون بين الأزواج؟

هي حال الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن المغالاة في الهجر وترك البيت والتقبيح، وحال علي بن أبي طالب عندما غضب من السيدة فاطمة الزهراء فما زاد على أن نام ظهيرة في المسجد فجاءه الرسول فأصلح بينهما، وبقي حب فاطمة في قلبه ثابت ويزيد وهو الذي أنشد فيها شعرا:

وبنت محمد سكني وعرسي مشوب لحمها بدمي ولحمي

وأما ثالث خطوات العلاج فبالصفح الجميل الذي ورد ذكره في القرآن حتى في حالة الأعداء فكيف بالأزواج، والصفح الجميل يكون في حال الزلل العظيم، ومن ملك نفسه في حال الغضب هو الشديد كما أثنى رسول الله، ومن زاد على ذلك بحسن التجاوز فهو كريم الخلق الذي يعطي من نفسه ويتجاوز عن حقه وكرامته لأجل الله أولا وحفاظا على الود القديم، وقد قال الشافعي في مدح هؤلاء: "الحر من راعى وداد لحظة".

والصفح الجميل مرتبط بالإدراك أن لا أحد يخلو من الحسنات كما في قوله تعالى "فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا" وقال النووي في تفسيرها: "أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه إن وجد منها خلقا يكرهه وجد منها خلقا مرضيا كأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة -أي ذات دين جيد- أو إنها جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك" وقال القرطبي: "يغفر سيئاتها لحسناتها ويتغاضى عما يكره لما يحب".

وقد ذكر الإمام أحمد عن زوجته أم صالح قال: أقامت معي أم صالح ثلاثين عاما فما اختلفت أنا وهي في كلمة.

فهل هم ملائكة لا يخطئون أم بشر لا يغضبون؟! أم إنها التقوى والصبر الجميل؟

يتبع

JoomShaper