رغم عينيه الزائغتين والارتباك الذي جمد ملامحه، انتفض الرجل فجأة واستعاد حيوية مؤقتة حين سأله مقدم البرنامج «من يتخذ القرارات في المنزل، أنت أم زوجتك؟». نبهه السؤال إلى كنيته كرجل بعد أن كان منذ ثوان فقط إنسانا مؤرقا بكشف أسراره على الهواء وعلى مرأى من ملايين المشاهدين المستمتعين برجال أو إناث يتساقطون أمام أسرهم على يد مقدم برنامج أضاع وقته في كشف أسرار حياتهم ليفضحهم علنا. توقفت لدى اللقطات التي تعلن عن البرنامج، والتي تعلن عن بقاء مفهوم الذكورة حبيسا في تعريف ساذج وممارسات عقيمة تبدأ بالتحكم وتنتهي إليه. فالبرنامج يفترض أن الرجل العربي ما زال يعتقد أن الذكورة تعني التحكم في الأنثى الزوجة أو الابنة أو الأخت أو حتى الأم، فالنساء في عصر العولمة وبعيدا عن الفضائيات لم يعدن يتطلعن إلى رجل متحكم، «حمش»، قادر على رفع صوته وغير قادر على فهم شريكته، أو استيعاب مشاعرها. لم تعد الرجولة تعني أن يتخذ الرجل قراراته منفردا في غيبة المرأة، ولا تعني رجلا متحكما يستبدل عقله بصوته، أو رجل يتولى الإنفاق في مقابل السيطرة، كما أن الأنوثة لم تعد صوتا ناعسا ولا دلالاً ساذجا ولا احتياجا للحماية بقدر ما هي احتياج للتواصل الإنساني. احتياج متبادل وغير مشروط لبشر تحترم عقولها.
لم يزد الرجل في عيني إلا ضعفا وهو يواري ضعفه بالضغط على كلمة «طبعا أنا متخذ القرار»، حيث إن اتخاذ القرار المشترك بين الزوجين أكثر صعوبة ومشقة ويتطلب شجاعة ومسؤولية أكثر كثيرا مما يتطلبه الانفراد بالقرار. إن الحوار واكتشاف لغة للتحاور أكثر صعوبة من التعسف في الرأي وأشق على الإنسان من إرسال الأوامر، فإذا كان الرجال يتحملون المشقة فعليهم أن يتحملوا طريق بناء الإنسان داخلنا واحترام إنسانية الآخر بدون أنانية وبدون الاختباء خلف تعريفات تروجها الفضائيات لمصلحتها وليس لمصلحة المشاهد رجلا أو امرأة.
فمن السذاجة أن نعتقد أن القنوات الفضائية القائمة بالأساس كمشروع اقتصادي مربح سوف تهتم بمراجعة مفهوم الذكورة أو الأنوثة أو غيرهما من المفاهيم والقيم، بل إن المنطق يدفع إلى أن تتبنى القنوات ما يرضي الجمهور ويضمن استمرار ارتباطه بالقناة بغض النظر عن إهدار كثير من القيم وترسيخ مفاهيم عفا عليها الزمن، فسطوة المال أشبه بوحش لا يشبع. ولا عجب أن يتسع مجال الإعلام الفضائي الاستثماري في ضوء نجاح القنوات في جذب الإعلانات التي تقيم أودها ماديا بل وتراكم أرباحا مغرية لأصحابها، وقد أشار التقرير السنوي للجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية إلى أن عدد القنوات الخاصة قد بلغ 609 قنوات خاصة، في مقابل 123 قناة حكومية حتى عام 2010. هذا ويضاعف هذا الكم الضخم من القنوات الفضائية والذي يقارب 5 أضعاف القنوات الحكومية من مسؤولية القنوات الجادة، والتي يفترض أن تكون أكثر غيرة على المضمون الإعلامي، وأكثر رغبة في بناء الإنسان العربي.
على أن المسؤولية لا تقع على عاتق القنوات الجادة والإعلام الرصين فقط، فالأسرة العربية عليها أيضا أن تعمل على إعادة بناء المكتبة في منزلها، وأن تحفز أبناءها على القراءة والاطلاع على كافة فنون المعرفة، ولا يتطلب الأمر أن يكون أحد الوالدين قارئا ومثقفا متميزا لكي يفسح المجال لأبنائه للتزود بالمعارف عبر مكتبة جادة، فقد صارت القراءة الآن احتياجا ملحا لمواجهة سيل التبسيط المخل والإفلاس الفكري والفني المطروح على الفضائيات. وعلى الأسر أن تجتهد بكل السبل لحماية أبنائها وأنفسها من هذا الفيض لمواجهة هذا الإغراق، في وقت تتوالد فيه القنوات ويضيق فيه الوقت على المشاهد ليخلو إلى نفسه.
على المدرسة أيضا أن تتحرك لحماية الأجيال القادمة عبر بناء رؤية نقدية لدى الطلاب، رؤية تمكنهم من التمييز بين الغث والسمين وترفع من أذواقهم وترقى بمشاعرهم، لا تهبط بها إلى درك الغرائز الرخيصة. بل إن نقد المواد الإعلامية ربما يدفع القنوات الفضائية ذاتها أو المسطح منها إلى مراجعة منتجاتها الإعلامية والسهر على معرفة احتياجات المشاهدين والتعرف على المجتمعات بعمق واكتشاف مناطق القوة لتعزيزها وطرح تصورات لعلاج جوانب الضعف، سواء في السياسات أو في المجتمعات. فربما تقرر الفضائيات التي تحملها السماء أن تفيض علينا بالخير كما تفعل السحب، وترسل رسائل هادفة توقظ الجميل فينا، وتبني في عقول أبنائنا وترسم مع المجتمعات طريقا يصل بنا إلى موقع بعيد أعلى الجبال نستحقه جميعا.

JoomShaper