كريم الشاذلي
خلقها ربنا للكدح والتعب والنصب، وأهاب بعبادة أن يتحلوا بالقوة والصمود أمام تحدياتها ومشاقها، مبشرا من أخلص منهم بجنة عرضها السموات والأرض،
وحياة هانئة سعيدة لا تعب فيها ولا نصب ولا مشقة .
وأمام اختبارات الحياة، كثيرا ما يجد المرء منا نفسه بحاجة لمن يربت على كتفه، ويهون من تعبه وألمه، ويضمه على صدره ليمده ببعض الدفء والطمئنية، وينشر في أوصاله شحنة من التفاؤل والأمل .
وما أجمل لو كان هذا الشخص شريك الحياة ورفيق الأيام ..
ما أعذب الكلمة الطيبة حينما تخرج من فم النصف الآخر، لتخبرنا كم نحن أقوياء، عظماء، رائعين ..
كم هي جميلة تلك الضغطة من كف حبيب، يخبرنا من خلالها في صمت بليغ أننا قادرون حقا على مواجهة الأيام بما تأتي به من مشكلات ومصاعب .
لقد نظرت في سير العظماء، فوجدت منهم من وهبة الله زوجة صالحة رائعة فهي تبثه الحماسة، وتزرع فيه الثقة، وتعينه على ما تأتي به الأيام، وما يبتليهم به الدهر .
وفي المقابل وجدت عظماء، شاء الله أن يبتليهم بزوجات، يعينوا الدهر عليهم !
، يكسروا فيهم العزيمة، ويسفهوا آرائهم، ويصغروا أي إنجاز يحققونه في الحياة .
وببعض التأمل والتدبر، رأيت أن الزوجة الصالحة الوفية، تنشر في حياة زوجها الحب والسعادة،
ورأيت كيف أن كثير من العظماء يستصغرون السعادة التي تأتيهم من أي شخص أمام سعادتهم بنظرة الرضا والفخر التي تشع بهما عين شريك الحياة.
وكذلك وجدت عظماء، يخلعون رداء العظمة على باب بيوتهم !،
ويودعون ألقابهم الكبيرة، وكبريائهم المستحق، وفخرهم وزهوهم قبل أن يدخلوا على زوجاتهم وأبنائهم ! .
أراهم فأتذكر قول أحمد شوقي رحمه الله : من خذلته أسرته، لم تأت من الأباعد نصرته .
أحد أصدقائي الذين وهبهم الله موهبة كبيرة، وقبول لدى الناس، شكا لي زوجته التي أحالت حياته جحيما مستعرا، وكيف أنه يستثقل موعد عودته للمنزل،
وقال لي بسخرية مريرة مؤلمة : لقد طلبت مني زوجتي ذات يوم أن أهديها كتابا من كتاباتي، وسخرت مني وهي تذكرني بأنه لولاها لما كتبت شيئا،
وبأن وراء كل عظيم امرأة !، ففكرت أن أكتب لها في كتابي القادم إهداء أقول فيه "إلى زوجتي أهدي كتابي الخامس .. ولولاها لكان الخامس والخمسون !!" .
وأراني وأنا أتحدث عن دعم الزوجة لزوجها اتذكر في حبور وسعادة أعظم موقف للدعم في التاريخ الإنساني بأسره، مشهد عاطفي ما أبدعته قريحة شاعر، ولم تخطه يد أديب أو ترسمه ريشة فنان .
إنه موقف خديجة رضي الله عنها، مع زوجها محمد (ص).
فبعد زواجه منها (ص) احتضنته رضوان الله عليها، ورأت فيه معالم العظمة والرجولة والنبل ، كانت تشعر بخبرتها في الحياة، واتزان عاطفتها،
ورجاحة عقلها، أن ذلك الشاب النبيل يحمل بين جنبيه قلبا شفافا، وروحا تشبه روح الملائكة، فكفته السفر والتجارة،
وشجعته على تلك السياحة الروحية التي كان يقصدها كل عام يذهب فيها إلى غار حراء، ينظر من أعلى إلى مكة، ويتألم بعمق لحال أهلها وهم يسجدون ويركعون لأصنام صنعوها بايديهم .
عجيب أمرها .. أليس كذلك ؟!
إمرأة تترك زوجها ليغيب عنها شهرا كل عام، غيابا غير مبرر ، فما هو بالنبي الذي يوحى إليه آنذلك، ولا بالتاجر الذي خرج يستطلع أمر أمواله،
وليس له أندام وخلان يسمر معهم ويسهر .
لكنها بحنين وحب صادقين، دعته يذهب حاملا معه دعواتها، وكانت ترسل له بالطعام، وتبعث بمن يتفقده ويطمئنها عليه ..
وذات يوم جاءها يرتجف مأخوذا، فما رآه لا يقدر على حمله بشر، وأتسائل مندهشا .. ولماذا خديجة ؟
إنه محمد العاقل المتزن، وها قد جاءه ما أفزعه، فلماذا اتجه إلى زوجته، ولم يذهب لعمه أبو طالب أو صاحبه أبي بكر، أو عشيرته وهم أهل عز وقوة .
إنه حضن خديجة .. وقلب خديجة .. واتزان خديجة ..
كان وهو يركض من أعلى الجبل، يتجه بعقله وقلبه ووجدانه إلى امرأة ..
كان خائفا .. ولم يؤمنه يومئذ إلا هي ..
كان مترددا .. لم يثبته آنذاك إلا هي ..
كان حائرا .. ولم يعطه اليقين حينها إلا هي ..
تلقته بقلبها، ومسحت على راسه وهي تسأله عن حاله، فأخبرها بخبر لقاءه الأول بجبريل، ثم قال لها خائفا ملتاعا : لقد خشيت على نفسي .
هنا زادت ابتسامة خديجة المطمئنة، وخرجت الكلمات من فمها تزرع الثقة والقوة في وجدان زوجها : كلا ..
والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر .
تقول له "كلا" فتزيح من ذهنه أي فكرة خوف أو قلق ..
ثم يكون كلامها قاطعا، فتبدأه بالقسم وتختمه بالجزم " والله لا يخزيك الله أبدا" .
فمن له بمثل صفاتك يا محمد ويخزيه الله ..
من بخلقك، وطيبتك، وإنسانيتك، ويدعه الله للمخاوف والهموم ..
لقد تحدث علم النفس عما يقوي الحياة الزوجية، ويغرس في أوصالها المتانة والقوة، وذهب كثيرون إلى أن البيت الذي يجد فيه الزوج أو الزوجة الدعم والمساندة هو البيت القوي الذي نادرا ما يزعزه طارئ أو تهزه كبوة .
تلك المساندة التي تعتمد على التشجيع، وشد الأزر، وتطييب الخاطر، وتطرد بدفئها كلمات النقد القاسي، والتأنيب المستمر، وكل ما يحطم من ثقة ونفسية شريك الحياة .
موقع كريم الشاذلي