الوطن الكويتية : بقلم الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
إن النظام الدولي الجديد هو استمرار، وتكريس لعدوانية قديمة، بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، تُرجمت اليوم في فوضى مطبقة! مغلفة بشعارات السلام والأمن، وتحقيق التنمية للعالم أجمع، والضحية في النهاية هو الإنسان المسلم. وقد تمكن هذا النظام إلى حد بعيد من فصل الإنسان العربي والمسلم عن تقاليده، وأنماط عيشه المألوفة؛ بحيث شكّل زيَّه، وكوَّن ذوقَه، وفرض عليه نوعاً من التصرفات، في إطار العلاقات الاجتماعية المحلية! بحيث أصبح كل موروث قابلاً للنقض، بل للاستهزاء أحياناً! وفصم الإنسان عن ماضيه فصماً مدهشًا! فقد جعل هذا النظام حضارته أحسن حضارة، وسعى إلى إبرازها بمظاهر مغلفة ببريق التقدم والتطور والعقلنة والتكنلوجيا، ودفع بلغته لتحتل الصدارة وتصبح لغة الحضارة والعلم والتقنية (1).

لمَ الحرب على الأسرة المسلمة؟؟

لقد علم أعداؤنا أن تقدم مجتمعٍ ما رهين بسلامة الأسرة فيه، وتخلف مجتمع ما وانحطاطه رهين بفساد الأسرة فيه، لأن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع التي يقوم عليها كيانه، وأي خلل يصيب الأسرة ينعكس على المجتمع سلباً، وأي صلاح وصواب يمس الأسرة إنما يعود على المجتمع بالإيجاب، ولما كان الإسلام هو عدوهم التقليدي الذي يريدون الفتك به كانت الأسرة هي منطلقهم الأول -بعد أن فشلت الحروب الصليبية والاستعمارية- وتحت الشعارات البراقة خاوية المضمون وتحت مسميات مختلفة جاءت المؤتمرات والندوات للمرأة والطفل والأسرة بهدف حمايتها وتطويرها والواقع عكس ذلك فمن وثيقة CRC عام 1990م إلى وثيقة A World Fit For Children مروراً بمؤتمري القاهرة وبكين عام 1994م و1995م فعلى سبيل المثال: ما بدأوه مع المرأة في مؤتمري القاهرة وبكين يواصلونه مع الأطفال في مؤتمر نيويورك.. تحريض على الأسرة وانغماس في الإباحية.

فالوثيقة الجديدة للطفل سنة 2001م بعنوان : A World Fit For Children عالم جدير بالأطفال تتجاهل تمامًا التحفظات التي وضعت على الـ CRC عام 1990م.

والوثيقة كلها تحتوي على أمور غريبة عن الواقع العربي الإسلامي، فهي تتحدث في مجملها عن تمكين الطفل بشكل يخرجه من سلطة الأسرة والأبوين على النسق الغربي، وتدعو إلى تآكل السلطة الأبوية والمدرسية بشكل واضح، وتضع بدلاً منها مؤسسات الدولة، مع غض النظر عن الإطار الأسري والاجتماعي.

والوثيقة أيضًا رغم كونها وثيقة للأطفال إلا أنها تحمل في طياتها كماً رهيباً من المفاهيم الجنسية، وذلك تحت دعوى أن الطفل هو من يندرج تحت عمر 18 عامًا، وبذلك، فإن المشكلات الجنسية تدخل في اختصاص الوثيقة لمناسبة هذه المرحلة السنية للطفل وهذا تدمير لبراءة الطفولة، وجعلها نموذجًا للطفولة المفعمة بالعنف والاستحواذ الجنسي .

الأسرة نقطة التحدي

لقد اهتم الإسلام بـ «المجتمع» في أسرته، واهتم بـ «الأسرة» فيه، فقعّد قوانينها وأرسى دعائمها على أسس مستقرة ثابتة ورصينة. لكن اليوم تغير الأمر وتبدل الحال، ولا ينكر أحد تراجع الأسرة المسلمة عن دورها في بناء الشخصية الإسلامية الفاعلة، وذلك يرجع لعدة أسباب منها:

-1 ضعف البناء التربوي والإيماني لبعض الأسر بسبب ضعف الثقافة الإسلامية والأسرية.

-2 الانفتاح الثقافي وطغيان العولمة الإعلامية والاجتماعية.

-3 الأوضاع الاقتصادية والضغوط النفسية التي جعلت كثيراً من الأسر تتخلى عن الأمانة التي كلفت بها.

ومن المؤسف حقاً انحسار الدور التربوي للأسرة في كثير من المجتمعات في الوقت الذي يتوسع فيه تأثير الفضائيات والإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام والاتصال.

الإنسان أصل الأسرة: يجب التنبه الى ضرورة أن الأصل في تكوين الأسرة هو الإنسان بقيمه وسلوكه وإنسانيته فمن المهم أن نتنبه إلى الأخطار التي تهددها في (إنسانها)،لأن الأسرة تمثل خط الدفاع الأخير عن إنسانية الإنسان، وآخر القلاع والحصون لحماية ما تبقى للبشرية من قيم الفضيلة والصلاح.

يأتي الكلام اليوم عن الإنسان بأنه إنسان الإدارة، إنسان الديموقراطية والقانون، إنسان الفن والإبداع، إنسان الخيار والنظر والتأمل، إنسان الدبلوماسية والمال والأعمال. وهذا كله لا عيب فيه من حيث المظهر، لكن العيب المركب حين تصاغ هذه النعوت والأوصاف بفلسفة خارجية لها مطامعها وأهدافها الخاصة التي تصوغ الإنسان على وفق مصالحها ومطامحها، أما الأخلاق والقيم والمبادئ، فهي آثار وذكريات لماض إنساني غابر، مكانها سجلات التاريخ، ومتاحف الآثار.

فإنسان الديموقراطية مثلا:ً هو الإنسان المخلص للمواثيق العالمية والقرارات الدولية لحقوق الإنسان، و(الديموقراطية) مفهوم يسري بين اليهود والنصارى والمجوس، تتحقق بين إنسانهم ولإنسانهم في أسمى صورها، لكنها حين تأتي إلى إنسان الإسلام تنعكس، ليصبح العمل بنقيض الديموقراطية هو الديموقراطية، والأمثلة على هذا كثيرة جداً تخرج عن الحصر، فهذه حماس رأيناها عندما نجحت في انتخابات حرة نزيهة كيف حاربها دعاة الديموقراطية وحماتها لا لشيء إلا لأنها إسلامية!! وكيف تمت مكافأتها على نجاحها الديموقراطي بعملية الرصاص المصبوب بمباركة من (الآباء الروحيين) للديموقراطية!! وتركية لا يمنعها من دخول الاتحاد الأوروبي إلا ما (يشوبها) من الإسلام!!! وغيره الكثير الكثير... وتنسى أو تتناسى إنسانية الإنسان.

فقد استهلكت الاهتمامات المادية إنسان هذا العصر، واستنزفت كل توجهاته المعنوية والروحية، ومسخت هويته الإنسانية القيمية، وحولته إلى شيء من الأشياء، وسلعة من السلع، حتى أصبح الناس ينظرون إلى بعضهم بعضاً، من خلال معادلة الربح والخسارة المادية، فيتقاربون أو يتباعدون، ويتعاونون أو يتحاربون، ضمن إيقاعات معادلة المصالح. فكم من الأسر لا يزوج بعضهم بعضاً لا لشيء سوى المكانة الاقتصادية، وكم من آباء يزجون بناتهم في زيجات قاتلة مظلمة لمجرد الوضع المادي.

بناء الأسرة السليمة:

إذا تكلمنا عن الأسرة؛ فلا يعني هذا الوقوع في متاهات الكلام السطحي المجرد، بل يعني الكلام عن الأسرة كما أرادها الإسلام للإنسان، لا الأسرة التي يريدها (النظام الدولي الجديد) للإنسان. إن الأسرة في الإسلام تكوين له قدسيته ومكانته فقد جعل تلاقي الزوجين آية من آيات الله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) وتأسيس المجتمع الصالح تكتنفه المودة والرحمة، وجعل العقد والمهر من الأسس التي لا يتنازل عنها ليبين مدى أهمية هذا الميثاق الغليظ، وجعل حقوقاً لكل من الزوجين على الآخر، ثم أمرهما بحسن التربية للأولاد على أساس الدين والقيم والعقل والتكريم الإلهي الذي أحاط به الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ }(3).

حرب القيم بين المسلمين وغيرهم

إذا بحثنا عن القيم في الإسلام رأينا أن الدين كله قيم لا ينفك بعضهما عن بعض.. لذلك فمن الموضوعية التيقن بأن القيم الإسلامية هي الدين الإسلامي نفسه.

يقول اللواء دكتور فوزي طايل - عليه رحمة الله- «يلحظ الباحث أن فقهاء المسلمين لم يفردوا أبواباً خاصة بالقيم؛ لأن القيم الإسلامية هي الدين ذاته؛ فهي الجامع للعقيدة والشريعة والأخلاق، والعبادات والمعاملات، ولمناهج الحياة والمبادئ العامة للشريعة، وهي العُمُد التي يقام عليها المجتمع الإسلامي؛ فهي ثابتة ثبات مصادرها وهي معيار الصواب والخطأ، بها يميز المؤمن الخبيث من الطيب، ويرجع إليها عند صنع القرارات واتخاذها.. وهي التي تحدث الاتصال الذي لا انفصام له بين ما هو دنيوي وما هو أخروي في كل مناحي الحياة»(4).

أما عند الآخر: فتقوم القيم في العصر الحديث من وجهة نظر علمانية على مبدأ « الحرية». والمعيار في القيم عندهم هو الثقافة نفسها فيتغير بتغيرها بحسب الزمان والمكان والمصلحة المتوقعة كما يلي:

أولاً: النسبية المكانية: لما كان لكل ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن «المرغوب فيه» يختلف تبعاً لذلك من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة.

ثانياً : النسبية الزمانية: أي أنها تختلف وتتغير في المجتمع الواحد بما يطرأ على نظمه من تطور وتغير، وهي في تطورها وتغيرها تخضع للمناسبات الاجتماعية في التاريخ كما تخضع لظروف الوسط الثقافي الذي توجد فيه.

ثالثاً: صلاحية القيم: إن كل ما تصطلح الثقافة على أنه خير يخضع دائماً في اختياره إلى مبلغ فائدته لهذه الثقافة بالذات، فالقيم تكون صالحة أو فاسدة تبعاً لدرجة قدرتها على إشباع الحاجات الأساسية، البيولوجية والاجتماعية للناس في الثقافة المعينة(5).

يقول «ديوي وهمبر» إن الخير والشر والمرغوب فيه أو غير المرغوب فيه هو ما تقرر الثقافة أنه كذلك فالحرب والأخذ بالثأر، وقتل أسرى الحرب، واحتكار الأقلية لأرض الدكتاتورية، كل هذه أمور تكون مرغوباً فيها وذات قيمة إذا قررت الثقافة ذلك.

التعدي على الأسرة عن طريق العلوم والمعارف:

إن المجتمع الإسلامي في الواقع يحوي الكثير من الأمراض، ولا بد لكي يكون البناء سليماً من بيان هذه الأمراض، وبيان الوسائل المؤدية إليها، ومن ثَمَّ العمل على علاجها. وأقوى هذه الأمراض هي ما يكون في الناحية المعرفية والإنتاجية، ووسائلها من العلوم والمعارف؛ ومن هنا بدأ التحدي تحت وابل من الشعارات باسم العلم والتطور والتقدم، فأغرقوا البلاد العربية والإسلامية بالمدارس الأجنبية، والمناهج الغربية، ومن خلال الدعاية والإعلان والسياسة يحاولون إظهارها بالمظهر النموذجي الذي يجب أن يُحتذى به، كما حاولوا ويحاولون دائماً تغيير المناهج في المدارس العربية والإسلامية بما يخدم مصالحهم وتوجهاتهم، عن طريق الضغط على الحكومات، والتدخل في سن القوانين، ووضع الدساتير، ضاربين عرض الحائط بالمبادئ والأخلاق العربية والإسلامية. وإليكم بعض الأمثلة على ذلك:

من قانون الأسرة (الأحوال الشخصية):

ويبدأ التحدي الكبير بالنسبة للأسرة المسلمة في الكلام عن قانونها وأحوالها الشخصية. وبما أن هذا القانون مستمد من الفقه الإسلامي، كان التوقف عند الشريعة الإسلامية طويلاً، فقد وُجِّهت إليها مناهج عصرية تستخدم أدوات جديدة في الفهم تتماشى مع طبيعة التفكير الغربي وطموحاته الاستعمارية، وهكذا بدأت أول حملة على شريعة الإسلام على يد جماعة من الباحثين الأكاديميين أوجدتهم الدول الغربية لغرض فهم الآخر وتقريبه، وفي مرحلة أخرى للتشويش عليه وتشويه صورته، هؤلاء هم الذين أطلقوا عليهم صفة (مستشرقين)، كان أول ما فعلوه هو التشويش على مصادر الشريعة: القرآن والسنة(6)، وهكذا جنَّدوا أنفسهم لدراسة الأحكام الشرعية، ومحاولة دس السم في العسل، واختلفت أبحاثهم كماً وكيفاً، فمنهم من باشر موضوع الأسرة وأحوالها في دراسة مستقلة، ومنهم من تكلم عليها في سياق أبحاثه عن الفقه الإسلامي بصفة عامة، ومن أهم خصائص دراسات المستشرقين:

-1 التفسير المنحرف للنصوص ويكون تارة وفق هوى الذات والمصلحة، وتارة أخرى يكون نتيجة لتطبيق منهج معين يفضي إلى رؤية غير سليمة.

-2 عزل الأحكام عن مقاصدها أو تأويل ما لأجله وُجدت، وهذا كثير في دراستهم وأبحاثهم(7). فمثلاً عندهم قوامة الرجل هي تفوُّق يضع الرجل في القمة والمرأة في الحضيض، وطاعة المرأة لزوجها ذل وخنوع، وغير ذلك مما يقلب كيان الأسرة رأساً على عقب.

-3 الإسقاط في التفسير والتعسف في التحليل، حيث تعطى لبعض الأحكام الشرعية تفسيرات مستمدة من أصول يونانية ورومانية وسريانية ويهودية ومسيحية. فالحجاب عندهم مثلاً مستمد من التشريع اليهودي، وذلك لأسباب شخصية تتعلق بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الشبهات تحت ما يثار باسم إدماج المرأة في المجتمع وحرية المرأة مما يطالب به المثقفون بالثقافة الغربية.

كيف نجح المستشرقون؟

العامل الأول: أنهم حلوا أساتذة ومدرسين في جامعات العالم الإسلامي، وعلى أيديهم تربت أجيال من النساء والرجال، وتجسدت تلك الشبهات في كتابات من جنس عربي أُرِيدَ لها أن تشتهر وتنتشر،وأن تترجم إلى اللغات الأجنبية لتعكس وفاءها للتقدم، وكثير منها حصل على الجوائز الفخرية وطنية ودولية.. من أجل أن تتبوأ الصدارة في التعليم والتكوين والتربية.

والعامل الثاني: أنهم لقنوا أجيالاً كثيرة من الطلبة الوافدين على الجامعات الغربية، وهذا كان له أثر بليغ في ترويج الشبه ونشر أيديولوجيا الاستعمار الحديث.

كما أعطت الكثير من الدول الأسبقية في التوظيف لحملة الشهادات الغربية، فتمركزوا في المناصب العليا، وعُهد إليهم تقرير مصير الثقافة في البلد، وهكذا ما تكلم عليه المستشرقون كثقافة أصبح اليوم مشاريع عمل تقف وراءها هيئات ومنظمات دولية وأحزاب وجمعيات وشخصيات وطنية(8).

والعامل الثالث: زيادة على ما تقدم فقد عُهد إلى بعض المستشرقين مهمة وضع قوانين محلية لبعض البلاد الإسلامية التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية، ولم يكن القانون المتعلق بالأسرة المسلمة يغيب عن هذه الإنتاجات بل كان جزءاً منها، ودخل فيه من التغيير والتحريف ما دخل في غيره بل ربما أكثر.

إلى علم الاجتماع:

السوسيولوجيا أو (علم الاجتماع) علم استعماري واكب الحملة الاستعمارية على البلاد العربية والإسلامية، نذكر على سبيل المثال فرنسا لما فكرت في احتلال المغرب أحدثت هيئة علمية في مدينة طنجة سنة 1903م، وكان من أهدافها الاهتمام بالعنصر البربري وتفريقه وكانت التعليمات التي تُقدم للمراقبين الاستعماريين تنص على ضرورة تقديم مساعدات لكل الباحثين السوسيولوجيين.

ولقد كانت الدراسات السوسيولوجية (علم الاجتماع) من أخطر الدراسات التي استهدفت الأسرة في الإسلام وكانت قضاياها العامة والخاصة من أدسم الموضوعات التي اختيرت للبحث.

وكان من طبيعة هذه الأبحاث التركيز على مكونات الأسرة من جهة الأصل والنسب والسلطة والعادات والتقاليد والأعراف... وهذا منهج تجزيئي يعتمد التفكيك كأسلوب معرفي يقال عنه إنه بحث علمي ناتج عن البحث السوسيولوجي.

فالخطوة الأولى هي القضاء على وحدة الأمة الإسلامية بإسقاط الخلافة وتقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات ثم متابعة الدولة وتقسيمها إلى أن وصل المسلسل التنازلي إلى الأسرة التي أريد لها أن تُقسَّم هي الأخرى، وأقوى وسيلة لتقسيمها هو توجيه الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية عن الأسرة في العالم الإسلامي، وما نعلمه هو أنها تُعد بالمئات(9).

وبشكل عام فإن النظام العالمي يتبنى «سياسة تفكيك المجتمعات» ولكي تتفكك لا بد من ضرب مواطن القوة، وأحد أهم مواطن القوة في العالم الإسلامي نـظام الأسرة الذي يحفظ للمجتمع قوته وتماسكه.

حتى في الأدب

تعددت الدراسات في نمط معين من الأدب، مثل القصة القصيرة والأدب المسرحي والفنون بمختلف أشكالها بما فيها الأفلام السينمائية، وتنال نسبة كبيرة من هذه المؤلفات شهرة واسعة وتطبيلاً كبيراً بسبب اختيار موضوعات أسرية تستهدف المرأة في صيغتها المحافظة من حيث علاقتها بالرجل، وعلاقتها بالمحيط وعلاقتها بالحضارة، لغرض تقسيم الأسرة المحافظة والقضاء على كيانها نهائياً، حيث يسود في هذا النوع من المؤلفات استهزاء واضح بالقيم، واستهتار كبير بالأخلاق والعادات والتقاليد الموروثة، ولكننا نتساءل: لمن تقدم هذه الإثارات والحكايات؟ ولمن يُوجَّه هذا النوع من التأليف؟

لقد تجاوز الأدب الحدود المعقولة في التأليف والنشر، فلم يعد الذين يرصدون الظواهر التي تمثل مظاهر قوة في المجتمع الإسلامي من الغربيين وإنما هم من أبناء جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا، وإن كثيراً من هؤلاء باعوا أنفسهم رخيصة للغرب.. ووُجِدت نخبة متغربة تتبنى قيم الغرب نمطاً للحياة بديلاً عن نمط الحياة الإسلامي، وتقوم هذه الفئات المهمشة والمهووسة بتقليد الغرب والمنسحقة أمـام قيمه بالتعبير بصراحة عن محادة الله ورسوله والدعوة إلى تبني القيم الغربية والتخلص مما أسموه: (القيود الدينية) من خلال مطالبات بالمساواة بين الـرجـل والمرأة في الميراث وبحق المرأة المطلَق في الحرية بجسدها، وبحقها في كسر أي قـيـود للرجل عليها.

لقد أصبحت «الإباحية» عقيدة العصر، ودين الحضارة، وحصل التوهم في فكرنا الحديث أن دخول باب الحداثة هو الإباحية، وإذا كانت الإباحية في أصلها تعني التحلل والخروج عن العرف والعادة والأخلاق، فإن هذا المعنى من شأنه أن يفسر كثيراً من مسلكيات ثقافة هذا العصر، من الخروج عن المألوف وتوليد الأفكار العجيبة والموضات الغريبة، وبنظرة واحدة إلى الشارع اليوم ترى مدى تأثر مجتمعنا فبعد أن كان مجتمعاً محافظاً له قيم وآداب وعادات وتقاليد نشأ عليها ترى الكثير من أبناء وبنات مجتمعنا فلا تكاد تعرف أنهم منا، فترى التبرج والسفور لدى النساء حتى المحجبات (الحجاب المتفسخ) الذي تظهر منه طبقات المكياج والزينة ما يندى له الجبين، والشباب بملابسهم وقصات شعورهم بأشكال وألوان يتقزز منها الإنسان السوي، وأخذت تسويغات من نوع ما منها أن الإنسان هو مطلق، وكل شيء يصادم حرية الإنسان لا بد من زواله، وأصبح هذا عاماً بشكل رهيب، حيث خرجت كثير من الأسر عن ضوابطها الأخلاقية، وقيمها الموروثة.

لقد اضطرب نظام الأسرة المعاصرة في واقعنا المعاصر، وسبب هذا الاضطراب هو الانقلاب الكبير الذي ساد المعايير، والاختلال الفاحش الذي أصاب المفهومات، فبينما كان يسود في الأسرة الإسلامية الحقة أن الدين والأخلاق والتقاليد العريقة هي المعايير التي توجه سلوك الأسرة الملتزمة؛ صار قانون النظام الدولي الجديد، وأشكال الموضة، وألوان التقليعات، والتفكير الزندقي الوارد من الغرب هي من يتحكم في الأسرة اليوم. يقول د. إبراهيم الخولي في كتابه (الانهيار): نحن أصبحنا مجتمع إباحة الاستباحة، الفرد في الولايات المتحدة استباح كل شيء ولم يعد في قاموسه كلمة حرام أو محرم، بهذا لا تستقيم حضارة ولا تستمر السفينة كلها تغرق ولا يملك أحد إنقاذها! وإنقاذها مرهون بالعودة إلى الدين والأخلاق.

التعليم والإعلام من أبرز أساليب الهدم:

وكان من أبرز المجالات التي تم التركيز عليها منذ بداية اللعبة «التعليم والإعلام» لما لهما من تأثير مباشر في صناعة وبرمجة أجيال جديدة تردد وتطبق عملياً العلمانية الانحلالية عبر خطوات محسوبة ومدروسة.

أما بالنسبة للتعليم فمنها:

? حصر التعلم الديني وحصاره مادياً ومعنوياً.

? الابتعاث إلى الخارج.. والذي أدى إلى صناعة قادة جدد أثروا في مسار الأمة وفي صناعة الأجيال.

? انتشار المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية.

? تمييع المناهج العلمية وطمس الحقائق وتزييف المناهج واللعب في المناهج الإسلامية باسم التطوير.

? نشر الاختلاط بين الجنسين والذي أدى إلى اختلال قيمة الغيرة، وأدى تطور العلاقة بين الشباب مع وضعهم في حالة إثارة مستمرة داخل أسوار الجامعة وخارجها في أحيان كثيرة، وكان من أبرز ما اعتمدت عليه مخاطبة غرائز الإنسان؛ لأنها أيسر الطرق في شرخ جدار المنظومة القيمية.

وأما الإعلام

فقد نجح (الدش) أو (الستلايت) في جعل الكرة الأرضية قرية واحدة ينقل عبر قنواته كافة الأحداث العالمية في حينها من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال حتى الجنوب، ولا ينكر أحد أهمية ذلك. لكن في الوقت ذاته هناك العشرات من القنوات الإباحية، وكذلك القنوات التي تعرض الأفلام غير المراقبة والأغاني المصورة المقززة والتي نجحت في نشر ثقافة العري وجعلها واقعًا ملموسًا وسط شرائح غيبت عنها الضوابط الشرعية التي في ضوئها يتم إنبات الثمرة التكليفية.

وتتعاون وسائل الإعلام بأنواعها كافة حيث تدخل بلا إذن في كل وقت، وتعمل بلا استشارة في كل حين، وتبث ما تشاء في كل الأوقات، فمختلف القنوات الفضائية تبث من الفساد الشيء الكثير، فالأفلام والمسلسلات المعتادة والكارتونية للكبار والصغار على السواء؛ إما أنها تبنى على قصة غرامية خليعة بين رجل وامرأة، أو قصة غدر وخيانة، أو صراع بين الرجل والمرأة وبين المرأة والمرأة، أو الطفل والأب، أو الطفل والأم.. في حكاية درامية مثيرة مما يثير المشاعر ويهيج الوجدان، وفي المقابل يأتي المسرح بحوادث مماثلة، وتقف السينما واللقاءات الإذاعية على الخط نفسه!

لا نتكلم عن الإعلام في حد ذاته، الإعلام لا بد منه في عصر يفرض دوره، والأمة التي لا إعلام لها لا وجود لها، وأفرادها يصبحون رهن التشكل في أية لحظة، الإعلام هو التعبير الموضوعي عن فضيلة الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها، به تعبر عن وجودها، وبواسطته تترجم آمالها وآلامها وأحاسيسها، وعملياً فالأمة التي لا إعلام لها كالجسد بلا لسان، يمكن لأي كان أن يتحدث باسمه، وأن يتكلم دونه وكأنه ميت، لم يعد الإعلام يخدم أهداف المجتمع الإسلامي: يعالج أمراضه ويدافع عن خصوصيته، ويرفع من مُثُله وقيمه بقدر ما تخصص في الدعاية والتعمية والتعتيم والتغطية والتشويه والتزييف والمبالغة في تقديم الحقائق والصور.. وهذا كله يستهدف الأسرة المسلمة في قلب البيت، وهي قضية خطيرة في حياة المسلمين اليوم!

أما قضية الإنترنت فهي قضية معقدة وشائكة، فالجيل الجديد نشأ في جو تتوغل فيه العلمانية الانحلالية في كافة ذرات الهواء الذي يتنفسونه، ومن ثم تم خلخلة المنظومة القيمية لدى معظم هذا الجيل...

وهذه المشكلة يمكن ضبطها من خلال:

-1 العمل دوماً على توضيح مخاطر العروض الساقطة على عقيدة الأبناء.

-2 تيسير وتشجيع الزواج المبكر.

-3 مراقبة الأبناء جيداً أثناء تعاملهم مع الحاسوب مع وضع الجهاز في مكان واضح لكافة أفراد الأسرة.

-4 أن يقوم الآباء بتعلم كيفية عمل المسح التاريخي للمواقع التي دخلها الأبناء لمعرفة توجهاتهم وليستشعروا أن هناك مراقبة فعلية.

-5 هناك برامج ماحية للبرامج غير المرغوب فيها يمكن برمجتها على الحاسوب يمكن من خلالها حجب المواقع السيئة بقدر الإمكان.

ولا ننس القضية الأخطر في مجال الإنترنت والتي جاءت عن كسر جدار الحياء بين الذكر والأنثى من خلال دعاوى الاختلاط وحقوق المرأة التي تعرف بـ«المحادثة» أو «الدردشة» أو معنى أدق «الشات» باستخدام وسائل ثلاث: البرقيات المكتوبة، والاتصال الصوتي، والكاميرا الحية، وليتخيل المرء ما هو الحديث المتوقع لمراهق ومراهقة هُيئت لهما مثل هذه الظروف. ومن المؤسف أن نسبة الإقبال العربي عليها عالية جداً، ويا ليت الأمر يتوقف عند ذلك، بل يمتد إلى المقابلات الخارجية ليتم تصديق الفعل الانحرافي عملياً، وهناك الكثير من القصص الواقعية لفتيات وقعن ضحايا هذا الشات، ما ذكره د. إبراهيم جوير الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود في جريدة الوطن السعودية: «أنه خلال السنوات العشر الماضية ارتفعت نسبة اللقطاء بشكل لافت للنظر بالسعودية؛ ففي زيارته الأولى لدور رعاية الأيتام قبل 12 سنة كان %75 من سكان الدار من الأيتام الذين فقدوا أحد الوالدين، أما عند زيارته الأخيرة للدور وجد أن %96 منهم من فئة اللقطاء (10)».

وفي النهاية: إننا نسلم بأن العالم أصبح قرية صغيرة لا يمكن للأسرة فيه أن تعيش منكمشة على نفسها، ومنعزلة عن المحيط من حولها، لكن ما لا يمكن التسليم به هو أن نفتح أبواب بيوت المسلمين لسلبيات الحضارة الغربية ومدمراتها. ولا تعني المحافظة على البناء العام للأسرة تزمتاً ولا يعني انغلاقاً، فلا بد من التمييز بين ما هو ضروري لحياة الأسرة وفق خصوصياتها الثابتة، وما هو أساس وحيوي من مستجدات الحياة الحديثة، هذا إذا كانت تعلم أنها النواة الصلبة للمجتمع الإنساني كله، وأن خيرها يتعداها لا إلى المسلمين فحسب؛ بل إلى الإنسانية كلها.


الهوامش
-1 ينظر في هذا الموضوع مقال الأسرة المسلمة في معركة القيم للدكتور: محمد خروبات. مجلة البيان عدد:194

-2 سورة الروم:21

-3 سورة الإسراء:70

-4 فوزي محمد طايل : كيف نفكر استراتيجيا، مركز الإعلام العربي ص : 30

-5 ينظر فوزية دياب : القيم والعادات الاجتماعية

-6 انظر : الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي: من 232-225.

-7 ينظر الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار، ص 58 بتصرف

-8 ينظر في الاستشراق: المعرفة، السلطة - الإنشاء: 320 لإدوارد سعيد: أستاذ اللغة الانجليزية في الجامعة الأمريكية في بيروت

-9 ينظر مجلة العلم الاجتماعية: م 3/17: 194.

-10 الوطن السعودية: السبت 1 شعبان 1424 هـ العدد 1093

JoomShaper