بقلم: الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني
حصن الأسرة وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع والمحافظة على هويته ودينه وقيمه وأخلاقه.. وحصن القدس الشريف وهي قلعة الوجود الإسلامي في فلسطين وبلاد الشام..
وبين هذين الحصنين ارتباط وثيق؛ فأبناء الأسر الصالحة هم الذين يدافعون عن شرف الأمة وقدسها وأوطانها في فلسطين والعراق ولبنان، بعد أن انهارت الأنظمة وتعطلت الجيوش ولم يبق إلا شباب الإسلام الذين تربوا في بيوت الأمهات الصالحات والآباء الصالحين المجاهدين، يحسنون الجهاد والسبق إلى الجنة والتنكيل بالعدو وتحطيم الخرافة أن جيشه لا يقهر..
فَقُهِر في لبنان وغزة وبدأت رياحه تنحسر، وبدأت الأمة تستعيد وعيها الإيماني والجهادي والحضاري عن طريق العلماء المجاهدين الذين أقاموا تنظيم الجهاد والمقاومة وجمعوا الأمة عليه.
المكر الصهيوني الغربي:
وهنا نجد تفسيراً واضحاً للهجمة الغربية الصهيونية على الأسرة المسلمة التي ترعاها مؤتمرات (بكين) ومنظمات تحرير المرأة على الطريقة الغربية، بالقضاء على كل أشكال التفرقة بين الرجل والمرأة التي يسمونها بـ(اتفاقية سيداو). وهذه الاتفاقية تقوم على إلغاء الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تقرر الحكم الشرعي بولاية الأب على ابنته وقوامة الرجل على زوجته، كما تلغي أحكام الميراث، وتلغي مفهوم الأسرة القرآني وتحولها إلى أسرة حيوانية قوامها ذكر وذكر أو أنثى وأنثى!

ومن المعلوم أن الخروج عن أحكام القرآن والسنة خيانة لله والرسول وجماعة المؤمنين، وهدم لمقومات الأسرة المسلمة التي ذكرها الله في الآية (34) من سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} أي مطيعات لله ولآبائهن ولأزواجهن {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} أي حافظات لغيبة أزواجهن، لازمات لبيوتهن، حافظات لأعراضهن {بِمَا حَفِظَ الله} أي بما حفظ الله من حقوقهن.

وفي الصورة المقابلة نجد لجان تحرير المرأة المدعومات بالمساعدات الأجنبية يضغطن على الحكومة لترفع جميع التحفظات التي سبق أن سجلتها، واستجابت الحكومة -للأسف الشديد- برفع التحفظ الذي يسمح للمرأة أن تخرج من بيت زوجها بدون إذنه، وتسافر، وتسكن كما ترغب؛ لتحطم الأسرة، وتشيع الفساد فيه، ولتنسف عوامل أمنه واستقراره بإشاعة الجريمة والاعتداء وقطيعة الأرحام.

وقفة مع بعض مصطلحات الاتفاقية وموادها:

1. الفقرات (ج، د، ز) من المادة (16) تطالب الموقعين عليها باتخاذ جميع التدابير اللازمة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية؛ على أساس تساوي الرجل والمرأة في نفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه، وتعطي الفقرة (ز) المرأة نفس الحقوق في اختيار اسم الأسرة والمهنة والوظيفة.

2. تحفَّظ الأردن على هذه الفقرات، وتسعى لجان المرأة (السيداويات) المدعومات بالمال الأجنبي لرفع هذه التحفظات!!

3. رفع الأردن أخيراً تحفظه على الفقرة الرابعة من المادة (15) المتعلقة بحرية السكن والتنقل والسفر للمرأة.

4. اتفاقية (سيداو) مخالفة للدستور الأردني الذي ينص على أن دين الدولة الإسلام، وعلى الرجوع في قضايا الأسرة والأحوال الشخصية لأحكام الشرع الشريف والمحاكم الشرعية، ولأنها نشرت في الجريدة الرسمية وهي تمس أقدس حقوق المواطنين دون الرجوع إلى مجلس النواب، وهذا مخالف أيضاً للدستور.

5. الخداع والتضليل من أساليب دعاة (السيداو). ومن خداع مؤتمر (بكين) والقائمين عليه من دعاة اتفاقية (سيداو) استعمال كلمة (جندر) بدل الزوج في تكوين الأسرة؛ ليضللوا ويخدعوا أن الأسرة لا تقوم على رجل وامرأة يتفقان على عقد زواج، وإنما تتسع في مفهوم (الجندر) الاجتماعي الذي يقيم الأسرة بين رجل ورجل، وامرأة وامرأة؛ لأن مفهوم (الجندر) الاجتماعي -حسب مؤتمرات (بكين)- هو الأساس الذي يلغي إرث الأنبياء وحضارة العفة والطهارة في تكوين الأسرة بعقد بين رجل وامرأة؛ ليصدق في الدعاة لاتفاقية (سيداو) قوله تعالى في المغيرين لخلق الله، المعطلين للفطرة التي شرعها الله. قال تعالى في وصف صنيع الشيطان ببني آدم: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الأَنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً . يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً} [النساء: 119-120].

6. ومن خداع القائمين على اتفاقية (سيداو) الوقوف عند الكلمات العامة دون التفاصيل التي تكشف أهدافهم التدميرية للأسرة والمجتمع؛ ولذلك فإن أخطر ما في هذه الاتفاقية المذكرات التفسيرية لها، ويختصرون على سبيل المثال (80) صفحة في ثماني صفحات، ويستعملون تعابير: (الأسرة التقليدية) و(الأسرة النمطية) للأسرة كما شرعها الله، ويستعملون تعابير (الأسرة الحديثة) و(الجديدة) و(المتطورة) للأسر التي تقوم على مفهوم (الجندر) (النوع الاجتماعي) بين ذكر وذكر أو أنثى وأنثى، ويشيعون مفاهيم الصحة الإنجابية، التي تيسر للمرأة أن تأتي بالولد من أي طريق غير طريق الزواج الشرعي، وتيسر لها أن تمارس الجنس، وتحظى بالرعاية القانونية لها.

7. الجلسة (53) لمركز المرأة التابع للأم المتحدة: ومن وقائع هذه الجلسة تكثيف الجهود من أجل تنفيذ مقررات (بكين)، والتصديق دون تحفظات على اتفاقية (سيداو)، واتخاذ جميع التدابير المناسبة على مستوى المساواة القانونية والفعلية للقضاء على التمييز ضد المرأة فيما يتصل بالزواج والأسرة وقوانين الإرث والملكية، واستصدار قوانين تجرم عمل الفتاة في منزل أهلها وأسرتها، ومن وقائع هذه الجلسة تيسير سبل الحصول على خدمات الوقاية من (الإيدز)، والتدريب على استعماله.

ومن وقائع هذه الجلسة:

تعميم المنظور الجندري في جميع التشريعات والسياسات والبرامج الحكومية، والقضاء على القوالب الجندرية النمطية والعمل على حث المجتمع على تحدي الأدوار الجندرية النمطية لأدوار كلٍّ من الرجل والمرأة.

تيسير الحصول على وسائل منع الحمل للمراهقين وتدريبهم على استخدامها.

إباحة الإجهاض للتخلص من الحمل غير المرغوب فيه.

- إلغاء الفوارق بين الرجل والمرأة وإعطاء الحقوق للشواذ.

- العمل على إلغاء كل التحفظات التي سبق إبداؤها من الدول الإسلامية.

صرخة للعلماء:

- وتتوجه المستغربات (السيداويات) إلى مراكز القرار الحكومي لإجراء تعديلات على قانون الأحوال الشخصية تحقق أهداف التغريب في الأسرة المسلمة وتعطل أحكام القرآن الكريم.

ومن المعلوم أن قانون الأحوال الشخصية هو الحصن الأخير للأمة، وقضاة الشرع الحنيف هم حماة هذا الحصن العظيم.

وأملنا كبير أن يكون العلماء حماة لدين الله في أحكام الولاية والقوامة والإرث والطلاق والأسرة، وأن يكونوا أقوى من الضغوط مستعينين بالله تعالى الذي أمر العلماء أن يحفظوا شرع الله الذي استحفظوا عليه. قال تعالى مذكراً بما حصل لعلماء بني إسرائيل: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63]. وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116].

وما ذكر الله لنا تقصير علماء بني إسرائيل إلا ليذكرنا بألا نقع في مثل خطئهم وتقصيرهم. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104-105].

يا علماء الإسلام:

لمثل هذا اليوم ولدتكم أمهاتكم.. الدفاع عن حصن الأسرة، والدفاع عن حصن القدس.

والدفاع عن حصن الأسرة يكون بالوقوف أمام مخططات التغريب والخداع والتضليل.. والدفاع عن حصن القدس يكون بالدعوة إلى الجهاد والمقاومة، وتذكير الناس بمسؤوليتهم لتحرير مسرى النبي (ص) والقدس الشريف وفلسطين، وفضح أساليب الخداع والتضليل التي مارسها العدو الصهيوني والغربي بالمفاوضات العبثية وتخدير الأمة وصدها عن الجهاد والإعداد والمقاومة..

يريد العدو أن يحتل الأسرة والثقافة بفكره وقيمه وقوانينه، كما احتل الوطن بجنده وعساكره.. والاحتلال الثقافي لا يقل خطورة عن الاحتلال العسكري.. والعلماء -ورثة الأنبياء- هم حماة الحصن الذين يواجهون هذه التحديات.. {وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].

والله المستعان



 

JoomShaper