تكريم الأم المستسلمة في قصة بناء البيت(4_4)
نجوى شاهين
تناولنا في الجزء الثالث(*) من قصة بناء البيت، أن الله تعالى أراد أن يكرم الأم المستسلمة في حياتها، وبعد موتها، فبارك الله تعالى لها في ذريتها، بأن جعل ابنها نبيا فضلا عن زوجها،  وتعرفنا أن الأم قد أحسنت تربية ابنها فقد ربته على الإيمان، وأنشأته على الرضا بما قسم الله تعالى له، و رسخت في نفسه درس الاستسلام، وهو الذي يثبت أن الأم نجحت في تربية ابنها تربية صالحة على الرغم من غياب الأب.
و في هذه الحلقة سنتوقف مع دروس استسلام الابن لأوامر أبيه، وكيف أنه في شبابه أرشده إلى الطريقة الصحيحة لاختيار الزوجة، ونتعرف على أي أساس يختار الشاب المرأة التي ستكون رفيقة دربه، و أما لأبنائه، وهذا ما جاء في الجزء الخاص من تفقد أبي الأنبياء لتركته، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه:
"فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ؟ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ.  قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقُولِي لَهُ: يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي: كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى،....." عَتَبَةَ بَابِكَ كِنَايَة عَنْ الْمَرْأَة، كما قال الإمام ابن حجر في الفتح.
"فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ قَالَ فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ". قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ، قَالَتْ: نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْكَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ: نَعَمْ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ".
لماذا الاهتمام بزوجة الابن:
على الرغم من أن عنوان القصة الأصلي: هو قصة بناء البيت الحرام، كما وردت في صحيح البخاري، والتي تبين قصة بناء أول بيت وضع للناس، وكلنا يعرف أن الله تعالى أمر أبينا إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام، برفع القواعد من البيت، ليكون مثابة للناس وآمنا كما قال تعالى:"وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"البقرة 125، ويتم بذلك توفير مكان مناسب لإعلاء كلمة التوحيد، وترسيخ مبادئه قال تعالى:"وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"سورة الحج 26، ومع ذلك نجد الاهتمام بهذا الجزء الخاص بكيفية بناء وتأسيس الأسرة الأساسية التي تجاور البيت، والتي ستحمى جناب التوحيد، وتنشره وتورثه للذرية والأبناء، ونرى في هذا وجوب الاهتمام بالأسرة، وتأسيسها على التقوى؛ لأن الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء مجتمع سليم متماسك موحد لله، ومن أهم مبادئ التوحيد التي يتربى عليها الأبناء ويتعلمونها من الآباء هي مبدأ:  الرضا والتسليم والقناعة، وهي المبادئ التي ترسخت في نفوس الآباء ولا بد أن يرثها الأبناء، ومن المهم أن تكون هذه المبادئ قد  ترسخت جيدا في عقيدة زوجة الابن، لأنها التي ستربي الأبناء، فكما قامت السيدة هاجر أم إسماعيل عند غياب الأب على تربية ابنها تربية صالحة، فكان لا بد من اختيار زوجة الابن، وتكون سليمة العقيدة، ولأن الابن قد يهتم بالمظهر، أو يهتم ببعض الأمور ولا يلتفت لبعض الأمور الأخرى الأساسية، وقد تكون الزوجة مؤمنة ومواظبة على أداء الصلاة، وبقية الفرائض لكنها كثيرة أو سريعة الشكوى، والشكوى كانت من زوجة إسماعيل عليه السلام لرجل مسن لا تعرفه، فالشكوى في هذه الحالة من هذه المرأة ليست لها فائدة، ويكون كلامها في الشكوى ناتجا عن ضعف في الإيمان، وقلة القناعة، وعدم الرضا.
تفقد الابن واختبار لزوجته:
ولما نشأ إسماعيل في كنف أمه، وعاش مع قبيلة جرهم وتزوج منهم، فكان لابد للأب أن يزور ابنه، ويتفقد أحوال تركته، وقد توفيت الأم المستسلمة أم إسماعيل السيدة هاجر، فوصل أبو الأنبياء، ووجد سيدنا إبراهيم عليه السلام أن ابنه قد تزوج، وخرج للسعي وراء الرزق، فكأنه أراد أن يجري اختبارا سريعا لزوجة ابنه، فسألها أسئلة تعتبر عادية، ومع ذلك هي تكشف بسرعة واختصار عن أمور إيمانية أساسية، ولكنها تعتبر من أهم الأسس التي يجب أن يتم اختيار الزوجة وفقها، ولما وجد زوجة ابنه تشتكي بدون داع،  لا فائدة من هذه الشكوى التي تكشف فيها أسرار البيت، ولكنها تترجم ما في قلبها من ضعف في الرضا بما قسم الله تعالى لها، وضعف في القناعة والاستسلام، فكانت هذه الشكاوى دليلا كافيا ليصل أبو الأنبياء إلى حكم مهم، ويأمر ابنه بتغيير هذه الزوجة، ويترك للابن رسالة مختصرة، أو إشارة رمزية لا تفهمها هذه الزوجة حتى لا يحرجها، ولكن الابن البار بوالديه، والمطيع لأبيه، والمستسلم لأمر الله، يفهم الابن الإشارة وينفذ على الفور خصوصا أن الزوجة حكت له الأسئلة والأجوبة، والتي يتضح منها أن هذه الزوجة فيها عيوب مهمة ظهرت في كلامها ولا بد من الاستغناء عنها، لأنها زوجة نبي، ولا بد أن تكون على أعلى درجات الإيمان والتسليم والرضا.
نصيحة الأب وتجاوب للابن:
و هنا نجد النصيحة الخالصة من الأب الحكيم، ولم يكتف فقط  بالنصيحة و إصدار الأمر، ثم ينصرف ولم يعد، بل رجع مرة أخرى يتفقد تركته، ووجد الزوج غائبا، وسأل الزوجة الأسئلة نفسها وتبين من أجوبتها أنها راضية وقنوعة ومستسلمة، وتحمد الله تعالى وتشكره ولا تظهر غير الرضا؛ ولذلك ترك الأب ـ إبراهيم عليه السلام ـ رسالة إيجابية لابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ بتثبيت هذه الزوجة والاحتفاظ بها؛ ولم يكتف بذلك، بل لما وجد أجوبتها مرضية، دعا لهما دعوة مهمة بالبركة في الطعام والشراب، بعدما التأكد من قوة إيمان الزوجة، ورضاها بما قسم الله تعالى لها، ولم ينس أن يؤكد على تبليغ سلامه للابن، وهكذا يكون موقف الأب المسؤول، وإن كان مشغولا فهو لا يهمل أولاده، بل يتفقدهم وينصحهم، والابن لا يعاند نصائح الأب خاصة أنها توجيهات مهمة في حسن اختيار الزوجة، والتي ستكون أما للأبناء، ولا يشك الابن في هذه النصائح الأبوية، ولا يعتبر أنها تشكيك في طريقة اختياره، بل يعتبر أن هذه النصائح خالصة، ولها مبررات مقبولة، بل يجب أن يعتبر هذه إرشادات راشدة وتوجيهات سديدة ونصائح خالصة، من أب حريص على مصلحة ابنه، ويحب له الخير ويريد له أن يكون في أفضل الأحوال. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الثالث
تكريم الأم المستسلمة في قصة بناء البيت
(*)/www.lahaonline.com/articles/view/39587.htm

الجزء الثاني
www.lahaonline.com/articles/view/39514.htm

الجزء الأول
www.lahaonline.com/articles/view/39420.htm

JoomShaper