إكرام العش
قالت: أخاف على أبنائي من الأخطار الخارجية التي يتعرض لها أبناء هذا المجتمع وهذا العالم.. لقد ربَّيتُ أبنائي بطريقة صحيحة، ولكن أخشى عليهم من الإنترنت والكمبيوتر والتلفزيون.. هل لك أن ترشديني كيف أحميهم؟!
قلت: رحم الله من قال: “خير وسيلة للعلاج.. الوقاية”. لأننا من الأفضل لنا أن نقي أبناءنا مسبقاً ونعلمهم ونعدهم لحماية أنفسهم من الأخطار التي قد يتعرضون لها؛ فمعظم المشاكل التي يقعون فيها تكون نتيجة الجهل في كيفية التعامل معها.. فاذا تعرضوا بعد ذلك لتلك الأخطار تكون الأقدار قد سبقت.. ولكن المهم أن لا نكون مُقصِّرين تجاههم من ناحية التربية والقدوة الحسنة.
خير وسيلة للعلاج.. الوقاية:
كثير من الأخطار أو المشاكل التي يتعرض لها الأبناء هي نتيجة إهمال الوالدين والأسرة، ونتيجة عدم الانتباه أو التقدير الحقيقي لحجم الأخطار المحيطة بهم.. فعندما يشتكي الأهل: “ابني أصبح مدخناً، أو مدمناً، أو يحترف السرقة…” يأتي السؤال المهم: ألم يكن هناك إشارات ودلائل مرحلية ولو قليلة على وجود خطأ ما في تصرفات الأبناء أو أفكارهم؟!

لو سألنا الأهل عن أية علامات أو أحداث أو تغيرات ظهرت على سلوكات الأبناء أو من خلال أحاديثهم وأحلامهم المسموعة التي يخبروننا عنها بصورة أو بأخرى لوجدنا العديد من الإشارات على وجود خلل ما.. ولكن الأهل قد لا يأخذون كلام أبنائهم أو تلك الإشارات على محمل الجد، خاصة أن هناك مفهوماً خاطئاً لدى الآباء هو: “قد يحصل هذا مع أبناء الآخرين، ولكن لن يحصل لأبنائي أو في بيتي”!

إن استبعاد الأخطار من حولنا خطأ يقع فيه الأهل؛ لذلك لابد أن يكون الآباء على درجة من الوعي والانتباه، وأن يقوموا بأداء دورهم التربوي والتوجيهي لأبنائهم كخطوة وقائية. وبعض الآباء يغمضون عيونهم عن حقيقة ما يجري في حياة أبنائهم بحجة الثقة بهم، أو عدم القدرة على التغيير، أو أن زمانهم ومتطلباته غير متطلبات الزمن الماضي.. ومهما كانت الأسباب فإن المشاكل لا تُحَلُّ بتجاهلها.

مصادر الأخطار:

يُخطئ من يعتقد أن الأخطار التي يتعرض لها أبناؤنا -على اختلاف اعمارهم- خارجية المصدر فقط.. ربما لأن البعض يميل إلى الاعتقاد بأن الأسرة لا تشكل مصدر خطر على الأبناء.. ولكن الحقائق تدل على غير ذلك؛ لأن العديد من الأسر قد شكَّلت مصدر خطر كبير على أبنائها بأساليبها التربوية الخاطئة، والعنف الأسري، والاعتداءات والتحرش الجنسي، والإسراف في الدلال أو الحرمان، وغير ذلك.. فالمشاكل والاضطرابات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الأبناء انعكاس ومرآة لما يجري داخل الأسر في كثير من الحالات.

وحتى نستطيع حماية أبنائنا لابد من التعرف على مصادر تلك الأخطار وهي:

أولاً: أخطار من داخل الأسرة:

1. التحرُّش والاعتداء الجنسي: وهو أحد الأخطار القديمة الحديثة التي تحيط بأبنائنا من الجنسين على حد سواء، وقد يكون الأطفال أحد ضحاياه بشكل خاص، وقد يستمر الاعتداء المنظم على نفس الطفل أو على الأطفال الآخرين في الأسرة. والنتيجة أحد الأمور التالية:

- التعوُّد على الاعتداء والانحراف؛ بحيث يصبح الفرد فيما بعد ممارساً للانحراف مع الآخرين.

- الإصابة بالاضطرابات النفسية والاكتئاب؛ نتيجة عدم القدرة على البوح بحادث الاعتداء لأحد أفراد الأسرة أو الوالدين لطلب المساعدة.

- الانعزال عن المجتمع والابتعاد؛ نتيجة مشاعر الذنب والخوف والخجل، وإذا كان المعتدى عليه فتاة فإنها قد لا ترغب بالزواج وتخشاه؛ نتيجة الخوف أو عدم الثقة بالجنس الآخر، وإذا تمت خطبتها تكون في شك دائم حول مدى الضرر والاعتداء الذي حصل لها.

- قد يصبح المعتدى عليه شخصية عدوانية وغير اجتماعية؛ مما يجعله يتجه للانحراف ويتخذه وسيلة للعمل والحياة.

وتدل الدراسات على أن الذين يعتدون على الأطفال هم في الأغلب أفراد مقرَّبون منهم، ويثق الأطفال بهم عادة؛ بسبب صلة القرابة أو لكونهم يدخلون البيت بصفة الصداقة، ويطمئن الأهل لوجودهم.

ويستخدم المعتدي عادة أسلوب التهديد والتخويف؛ وبالتالي يخشى الطفل المعتدى عليه افتضاح أمره، وقد يصدق كل ما يقال له من أجل كتمان ما يحدث. ويعاني المعتدى عليه من الخوف والقلق وتدهور الحالة الصحية والدراسية، وإذا كان المعتدي هو الأب أو الأخ أو العم أو الخال أو أبناؤهم.. نجد أن الأطفال يخافون الاقتراب منهم، ويحاولون تجنبهم حال حضورهم، وربما تكون هذه إشارة للأهل على وجود خطأ ما، خاصة إذا تكرَّر حصول مثل هذا السلوك من الأبناء.

وأذكر هنا قصة تلك الشابة البالغة من العمر خمسة وثلاثين عاماً تقول: “أكره أمي كثيراً؛ لأنني عندما كنت صغيرة كان ابن عمي يأخذني إلى الحقل بحجة تدريسي، ويعتدي عليَّ مع أصدقائه، وعندما كنت أرفض الذهاب كانت أمي تقول لي: هذا جزاؤه لأنه يريد أن يساعدك في الدراسة؟! ولم تسألني مرة واحدة: لماذا لا أريد الذهاب معه؟! كنت وقتها لا أدري ماذا يحصل معي، ولكن بفطرتي كنت أعرف أن ما يحصل شيء خاطئ.. واستمر الاعتداء عليَّ لسنوات، وأصبحت بعد ذلك ضحية سهلة للانحراف..”.

وعندما ذَكَرَتْ مرات الاعتداء عليها خلال تلك السنوات صُعقتُ؛ لأني لم أتصور أن أمها لم تلاحظ ما يحصل مع ابنتها أو تلاحظ اختفاء ابنتها لساعات مع ابن عمها الذي يكبرها بسنوات عديدة.

وتلك الزوجة التي أحضرت طفلتها للمساعدة.. وبعد حوار قصير معها وطرح الأسئلة وجدتها حضرت لتساعد نفسها في التخلص من ذلك السر الذي حملته معها منذ أكثر من عشرين عاماً عندما كان والدها يتحين الفرص للتحرش بها؛ مما منعها أن تكون زوجة قادرة على أن تمارس حقها الشرعي مع زوجها؛ نتيجة مشاعر الذنب والخوف من أن يكتشف ما حصل معها..

2. الحرمان العاطفي: إن التعبير عن مشاعر الحب والتشجيع والدعم النفسي للأبناء يحيمهم من كثير من الأخطار الخارجية، ويُشعرهم بالأمان داخل الأسرة؛ فنحن على اختلاف أعمارنا نبحث عن التقبل والاحترام والتشجيع والحب من البيئة التي تحيط بنا؛ لأن هذا الدعم والحب يؤثر على توازننا النفسي ونظرتنا لأنفسنا وللحياة من حولنا.. وربما كانت المشاكل النفسية التي يعاني منها أطفال الملاجئ -بسبب تغير من يرعاهم باستمرار وحرمانهم من الحب المستمر- مثالاً على ذلك.

إن ما يعانيه كثير من الأبناء نتيجة رفضهم وعدم إشعارهم بالحب والاحترام والثقة يجعلهم يبحثون عن الحب والتقبل خارج الأسرة بين الرفاق أو عند أول من يعبر لهم عن حبه لهم.. وللأسف قد يكونون ضحايا أصدقاء السوء أو ضحايا راشدين منحرفين.

3. القدوة السيئة: عندما يكون الآباء قدوة سيئة لأبنائهم فإنهم يكونون بذلك المصدر الرئيسي للخطر؛ لأن الأبناء يتعلمون من خلال القدوة والتقليد لما يرون أمامهم، ونتيجة الممارسات والسلوكات الخاطئة التي قد يقوم بها الآباء (مثل: الكذب، السرقة، التدخين..) فإنهم يساعدون في تكوين مفاهيم خاطئة عن الحياة عند الأبناء.

4. التفرقة في معاملة الأبناء: وهذه أحد أسباب الانحرافات والاضطرابات النفسية والاجتماعية.

5. الحرمان المادي: وعدم توفير أساسيات الحياة للأبناء قد تدفع بهم للانحراف؛ إذا توفَّرت الظروف التي تساعد على ذلك.

6. المعاملة السيئة والجهل بأساليب التربية الصحيحة: واستخدام أنماط تربوية خاطئة (مثل: القسوة في المعاملة، الدلال الزائد، الحرمان الزائد، الإيذاء الجسدي).

7. المشاكل الأسرية المتكررة وانقطاع الحوار الأسري وطلاق الوالدين: فهذه كلها عوامل تساعد على الانحراف.

ثانياً: الأخطار الخارجية:

1. أصدقاء السوء: كثيراً ما يدفع الأهل بالأبناء إلى خارج المنزل؛ نتيجة سوء المعاملة، أو عدم المعرفة بالطرق الصحيحة للتعامل مع الأبناء (خاصة الذكور) في مراحلهم العمرية المختلفة إلى البحث عن الاحترام والتقدير والتقبل والحب خارج البيت..

ولجماعات الرفاق متطلبات على الأبناء تقديمها حتى يتم تقبلهم كأفراد في تلك الجماعات، وهذه المتطلبات تختلف من جماعة لأخرى؛ فقد يكون الكذب أو التدخين أو التسكع في الطرقات أو تعاطي المخدرات إحداها، وقد يكون هناك متطلبات أكثر خطورة كالانحرافات الجنسية، وتدمير الممتلكات العامة..

2. الإعلام ووسائل الاتصال:

فمن من الأُسر لا تملك جهاز نقال واحد في البيت على الأقل؟! أكاد أجزم أن أكثر الأسر تملك أجهزة بعدد أفرادها.. وليس في هذا خطأ إذا ما استخدمت من أجل ما صُنعت له، ولكن السؤال: من منا يُغلق جهازه حال دخول بيته حتى يتواجد قلباً وقالباً مع أسرته؟! قد يقول البعض: أنا.. لكن الغالبية لا تفعل ذلك..

إذن لا داعي لأن نلوم التكنولوجيا وأبناءنا.. بل ينبغي أن نلوم أنفسنا أولاً لأننا لم نضع قوانين لإدارة بيوتنا، وإن وضعناها سرعان ما نتساهل في تطبيقها ونتناساها.

والحال كذلك بالنسبة لاستخدام الكمبيوتر والإنترنت والتلفزيون؛ فقوانين البيوت يجب أن تُحترم وتُطبَّق من أجل مصلحة الأبناء ومصلحة الأسرة.

3. أخطار الطريق:

قد لا يجد البعض أن أخطار الطريق من الأخطار التي يجب التنبيه إليها، ولكن كلنا يسمع ويقرأ عن حوادث السير والاختطاف والاعتداء.. نتيجة تواجد الأبناء في أماكن غير آمنة.

ثالثاً: أخطار تتعلق بشخصية الأبناء:

هناك صفات يتصف بها بعض الأبناء دون بعضهم الآخر تؤدي إلى تعرضهم للأخطار أكثر من غيرهم إذا لم يتم التنبه لهم مبكراً؛ فالأبناء الذين يعانون من فرط الحركة وتشتت الانتباه والنشاط الزائد قد يُعرِّضون أنفسهم للإيذاء الجسدي أكثر من غيرهم، والذين يعانون من الاضطرابات الشخصية كالانعزاليين والانطوائيين والشخصيات الحساسة والذين يعانون من ضعف الثقة بالنفس هم أكثر تعرضاً للايذاء النفسي، والأكثر عناداً، والذين لا يُقدِّرون المخاطر قد يقعون في الاخطاء والاضرار المختلفة.

لا تقارنوا زمانكم بزمان أبنائكم:

كثيراً ما يقول الآباء: “زمان.. على أيامنا كنا نعمل كذا وكذا..” أو “هذا الجيل غير صالح” أو.. أو.. للدلالة على عدم رضا الأهل عن سلوكات أبنائهم.. أنا معكم في اختلاف الزمان.. ولو عدنا قليلاً للوراء لوجدنا أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأسرية والتكنولوجية تختلف إلى حدٍّ كبير عن الوقت الحالي؛ فالأسرة كانت مصدر المعرفة الوحيد، ومصدر التوجيه الوحيد.. وربما كان جهاز الراديو هو وسيلة الاتصال الوحيدة مع العالم الخارجي..

لذا ستكون عملية المقارنة غير عادلة؛ لأن التحديات والمغريات لإفساد هذا الجيل بدأت تعصف بجميع المجتمعات، وقد تكون خطيرة جدّاً إذا لم يكن هناك دعم من داخل الأسرة؛ فواجب الأهل إعداد أبنائهم للتعامل مع ظروف وضغوط زمانهم.. وعليهم أن يكونوا عوناً لهم على التعامل مع هذه التحديات.

خطوات وقائية:

تقوية الوازع الديني لدى الأبناء، وتنمية الرقابة الذاتية.

إرشاد الأبناء إلى الصحبة الطيبة.

التوجيه الأسري السليم، ووضع قواعد أسرية سليمة.

أن يكون الآباء قدوة حسنة للأبناء في القول والعمل.

الحوار والتوجيه الإيجابي المبني على الثقة والاحترام.

تقبُّل وحب الأبناء غير المشروط رغم اختلاف قدراتهم، وعدم التمييز بينهم.

الابتعاد عن العنف الأسري، وحلِّ الخلافات بين الأزواج بعيداً عن الأبناء، وتوفير أجواء آمنة للأسرة.

إشغال وقت فراغهم بما ينفع، وتعويدهم العمل وكسب الرزق كنوع من الإعداد لحياتهم القادمة.

الاستماع لهم باستمرار، ومراقبة التغيرات في سلوكاتهم.

تعليمهم احترام أجسامهم وخصوصيتها، وتنبيههم إلى الأخطار التي قد يتعرضون لها.

تعويدهم الصدق والصراحة وعدم الخوف في اللجوء إلى الأهل عند تعرُّضهم للخطر.

تزويدهم بالخبرات، وتدريبهم على أن يكون لهم رسالة في الحياة يعملون لإنجازها.

تحميلهم المسؤولية كلٌّ حسب عمره؛ حتى يشعر الابن بالانتماء للأسرة، ويشعر بأهميته كفرد منها (مثل: تدريبه على المشاركة في أعمال المنزل أو ترتيب الأشياء الخاصة به).

العلاج:

في حال حصول الضرر أو انحراف أحد الأبناء.. على الأسرة التعامل مع الوضع كفريق واحد، وعدم اللجوء إلى اللوم وإلقاء المسؤولية.. وطلب المساعدة المتخصصة؛ لأن التخلي عن الأبناء في هذه الظروف قد تدفع بهم للابتعاد أكثر عن الأسرة، ورفض الأبناء أو طردهم من البيت قد تجعلهم عرضة لشياطين الإنس؛ فالذئب يأكل من الغنم القاصية.

وأخيراً.. كلنا خطاؤون، وخير الخطائين التوابون، كما أننا لا نتصف بالكمال.. وقبل أن نحاسب أبناءنا علينا أن ندربهم ونعلمهم، وأن لا نتوقع منهم ما لا يستطيعون إنجازه، أو ما لم ندربهم عليه..

إنها دعوة للآباء أن يحاسبوا أنفسهم فيما قصروا فيه من توجيه ورعاية نحو الأبناء.. فتوفير المال والطعام والاحتياجات المادية الزائدة عن الحد لا يغني أبداً عن التوجيه والحب والرعاية النفسية والاجتماعية والروحية للأبناء.

*إكرام العش / أخصائية نفسية

JoomShaper