منال عبد الجليل العواودة
الحرية… ضرورة وحاجة إنسانية قبل أن تكون فريضة شرعية، فقد أوجدها الله في النفوس وجبل الناس عليها.. وهي قيمة مجتمعية لا بد من إشاعتها واحترامها والحفاظ عليها..
كما أنها حقٌّ من الحقوق الطبيعية للإنسان، فلا قيمة لحياة الإنسان دون الحرية، وحين يفقد المرء حريته، يموت داخليّاً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض.
ولقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن “الحرية” أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله تعالى هو العقل الحر، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256] فنفي الإكراه في الدين، الذي هو أعز شيء يملكه الإنسان، للدلالة على نفيه فيما سواه وأن الإنسان مستقل فيما يملكه ويقدر عليه لا يفرض عليه أحد سيطرته. وهكذا قرن الإسلام كمال الدين بكمال الحرية؛ لذا يدرك كلّ مسلم أنه مكلف وأن من مقتضيات التكليف الحرية؛ قال تعالى: {..إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
الأسرة هي مركز التدريب الأول للأبناء على تعزيز قيمة الحرية، قال الشاعر العربي أبو العلاء المعرّي:

وينشأ ناشئ الفتيان منّا *** على ما كان عوَّده أبوه

وقد حثّ الإسلام أتباعه على احترام رأي الصغير منهم، ودعاهم إلى أن يتركوا صغارهم ليعبروا عن أرائهم بحرية كاملة، رغم حداثة سنهم وقلة خبرتهم، وشعارهم “كيف يتعلم من لم يخطئ”، ومما روي في السيرة العطرة أن رسول الله e أُتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ فقال للغلام: “أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله، لا أؤثر بنصيبي منك أحداً، قال: فتلّه رسول الله e في يده”. (متفق عليه).

ماذا لو اندثرت قيمة الحرية، وحوربت بقصد أو دون قصد، ماذا لو لم تعزز هذه الفطرة ولم تنم عند الفرد ولم ترقَ إلى مستوى المهارة، لا شك أننا سنكون أمام مشكلات خطيرة يعاني منها الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

1. فقدان الفرد الثقة في نفسه: لدى الفرد قدرة على الاحتفاظ بنظرة إيجابية نحو نفسه، لكن كثرة المواقف التي يتم فيها النفخ على جذوة الثقة تؤدي إلى خفوتها في نفس الفرد، ذكرت إحصائية مشهورة أن الأبناء يتلقون خلال الثمانية عشر عاماً الأولى حوالي (149400) رسالة سلبية؛ مقابل (600) رسالة إيجابية فقط. لذا فكثرة التوبيخ و التقريع تكسر عصا الثقة في يده، فالطفل قد تعود على عدم الاستماع له، وتسفيه والديه لآرائه، وكأنه كمٌّ مهمل أو شيء ضبابي لا وجود له في الأسرة، هذه التربية الصارمة جعلت منه مجرد آلة لتنفيذ الأوامر وإطاعتها بدون أي مناقشة تذكر.

يروى أن صبيّاً وفتاة أُدخلا مدرسة لتعليم الصم والبكم بـ(دبي)؛ وبعد التعامل معهما تبين أنهما ليسا معاقيَن، بل بإمكانهما الكلام!! وكل المشكلة عندهما تتعلق بالتربية التي تعرضا لها من قبل الوالدين، فالأب لا يسمح لهم بأدنى حركة في حضوره، وأم مستسلمة.

2. ضعف الانتماء للأسرة: هي ظاهرة نفسية وتصف الشعور الطبيعي لما يحدث من تربية صارمة خاطئة، يشعر فيها الفرد بدونيته داخل أسرته وبيته، فيتولد لديه نفور من أفراد أسرته، وعدم قدرة على التعامل معهم أو تقبلهم، وبالتالي تنعكس مشاعر ضعف الانتماء على المجتمع بشكل عام.

3. الانطوائية والعزلة: وهذه هي النهاية الحتمية لكبت حرية الفرد في الأسرة؛ فالأنا لدى الطفل محجور عليها في أسرته، مما يشعره بالحرج أثناء الحديث والتفاعل مع الآخر، فيجنح للعزلة والبعد عن الناس.

يولد كثير من الأبناء وجذوة العبقرية تتقد في ذهنه، إلا أن الكثير من الآباء -ناهيك عن المجتمع- يطفئان هذه الجذوة في الغالب؛ فالآباء ينظرون إلى الابن على أنه مازال صغيرًا، مما يعطيهم حق الوصاية عليه، فيلغون حريته تماماً أو يكادون، ونسوا أو تناسوا أن هذا المخلوق قد خلق الله له عقلاً وروحاً يحتاجان إلى أن ينشطا ويعملا حتى يصل إلى الاستقلالية الحقّة التي ينشدها أي مربٍّ، فتعامل مع ابنك على أنه (مخترع صغير)، أو(عبقري في بيتك)، تعامل معه على أنه (مشروع حياتك)؛ الذي يحتاج إلى مثابرة ومجهود حتى ينجح ويؤتي ثماره.

وهذا يبدأ منذ اللحظات الأولى في حياة الطفل، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن إبداء الأم اهتمامها بوليدها في الأسابيع الأولى من ولادته، تجعله يسرع في عملية المناغاة والتآلف مع أمه.

والابن يحتاج إلى أذن تسمع، ولسان يحاور، لا تعليمات وأوامر، فليحرص كل أب وأم على الإجابة على كافة أسئلة أطفالهم، بما يتناسب وقدرة عقولهم ومرحلتهم العمرية، فأسئلتهم تلك هي فاتحة التعلم وعنوان لذكائهم وتزكية له، وكذلك يجب على الآباء تشجيعهم على التحدث بل ودفعهم لذلك، وليطلق الابن أفكاره بين أفراد الأسرة، هذه الفرصة التي يتيحها الآباء لأبنائهم تعزز الذكاء الوجداني و العقليّ لديهم.

وليتغافل الآباء عن أخطاء أبنائهم، فكما يتعلم الكبار بالقراءة، فإن الأبناء يتعلمون بالعمل والممارسة؛ وإذا بذل الآباء جهداً في توعية أنفسهم من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين، والالتحاق بتدريب ما، واطلعوا على وسائل وأساليب متنوعة سينجحون في غرس قيمة الحرية في نفوس أبنائهم، فليتفننوا في ابتكار ما يسعد الأبناء، بل فليأخذوا من الأبناء بعض الأفكار بغية تعزيز حرية التعبير وحرية اتخاذ القرار وحرية حل المشكلات بصفتها مهارات تعزز قيمة الحرية عند الأبناء، فمثلاً، لو يشرك الآباء أبناءهم في إدارة أمور البيت، ولو يجعلوا كل واحد منهم وزيراً للمالية مسؤولاً عن ميزانية البيت لأسبوع، ولو يشركوهم في أعمال تطوعية وخدمية لمجتمعهم منذ الصغر.

ولا ننسى أهمية أن يُغرس في الأبناء منذ الصغر أن للحرية ضوابط وحدوداً (حرية بلا حدود = فوضى)، وأن الحرية دائماً تقترن بالمسؤولية؛ فحرية الفرد تنتهي عندما تتعارض مع مبادئ الإسلام وثوابته وأخلاقه، وعندما تبدأ حرية الآخرين.

****

بقلم: منال عبد الجليل العواودة / مؤسسة رماء للاستشارات والتطوير التربوي

JoomShaper