د. علاء عبد المنعم إبراهيم
على الرغم من السنين الطويلة التي تفصل بيننا وبين هارون الرشيد وزمنه،  4_opt.jpeg فإن هذه الشخصية تظل حاضرة في الوعي الجمعي للذات العربية بوصفها معادلًا للنضج الحضاري الذي وصلت إليه الأمة والقائمون عليها، وكما كان الرشيد ناجحًا بامتياز في قيادة الدولة، فقد كان كذلك على وعي كامل بدور المؤدب- المعادل للمعلم المعاصر- في إعداد ابنيه وتربيتهما وتأهيلهما لتولي منصب الخليفة في المستقبل، وهو ما يتبدى بوضوح في هذه الوصية- التي حفظتها لنا متون كتب التاريخ وخاصة كتاب «المحاسن والمساوئ» لإبراهيم البيهقي– التي يطرح عبرها الرشيد عددًا من المعايير التربوية التي يرى حتمية توافرها في المادة العلمية والتربوية المقدمة لأبنائه، وكأننا هنا بإزاء مستشار تربوي خبير، يحدد الإستراتيجيات العامة للبرامج الدراسية المقدمة للطلبة، وهي أمور يفرض علينا نجاح تجربة صاحبها أخذها بعين الاعتبار واستيعابها في إطار من المرونة الاستقبالية. أرسل الرشيد إلى الأحمر النحوي فلما دخل عليه قال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه وصيّر يدك عليه مبسوطة ومقالتك فيه مصدقة وطاعتك عليه واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن وعلمه الآثار والأخبار والسنن وروّه الأشعار وبصّره مواقع الكلام ومره بالرزانة في مجلسه والاقتصاد في نظره وسمعه، فلا تمرنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فيها فائدة تفيده إياها وكلمة نافعة يعيها ويحفظها من غير أن تخرق به فتميت ذهنه وتملّه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه بالتقريب والملاينة، فإن أبى فالشدة.

علينا ونحن نقارب هذه المعايير التربوية التي وضعها هارون الرشيد لمعلم ولده، مراعاة السياق الذي أُنتِج فيه النص، وهو سياق إعداد طفل ذي خصوصية اجتماعية وسياسية، ومن ثم جاء النص بوصفه بنية تمثيلية للعلوم الدينية متصدرًا مشهد الوصية، وهو تصدر يبدو مبررًا من جانب شديد الخصوصية في نموذج الحضارة الإسلامية، ونقصد بها نموذج الخليفة، أو بالأحرى أمير المؤمنين وخليفة رسول الله، ومن ثم فالمنصب السياسي واستتباعاته السلطوية يمتاح بالأساس من مرجعية دينية يعيها القائم على السلطة آنذاك (هارون الرشيد) ويقدر قيمتها الباذخة في تحديد الدور المستقبلي لولي العهد، إن الهارون هنا يضعنا أمام مبدأ تربوي بالغ الأهمية وهو حتمية التوازن بين الهدف التعليمي ومفردات العملية التعليمية، وهو ما يكتمل عبر تتابع الخطوط العريضة التي يفرضها الهارون الخبير بأمور الملك، فننتقل من العلوم الدينية إلى العلوم الدنيوية التي يفيض في تحديدها الهارون على العكس من اختزاله السابق للثقافة الدينية في النص القرآني المقدس، وهارون في هذا لا ينسى الهدف الرئيس من عملية التأديب وهي التهيئة والإعداد للمستقبل على المستويين الشخصي والعملي.

العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية

يوجه الرشيد بعد ذلك إلى أهمية عناية المؤدبين بعلمي التاريخ والأدب، فوعي ولي العهد بالتاريخ ومفرداته سيجنبه الوقوع في العديد من الأخطاء التي وقع فيها سابقوه، كما سيجعله يستثمر التجارب الناجحة للملوك من الأمم المختلفة في إثراء ملكه، أما الأدب فهو مما لا غنى للملوك آنذاك عنه، وهنا تنبلج قضية مهمة للغاية، تجاوز مساحة النص وإطاره وصولًا إلى عصرنا الحال، ونقصد بها القيمة الوظيفية للعلوم الإنسانية، وهنا نستدعي تساؤلًا طالما أثير على ألسنة الكثيرين، وهو: ما القيمة التي يمكن أن تضيفها العلوم الإنسانية للمرء؟ ولمَ لا يتم الاكتفاء بالعلوم التطبيقية كالطب والهندسة بوصفها العلوم القادرة على الارتقاء بمستوى الدولة؟ والحقيقة أن التجربة المصرية مع الإرهاب في التسعينيات تقدم تفسيرًا مهمَّا في هذا السياق، حيث كشفت الإحصائيات أن الغالبية العظمي ممن أُلقي القبض عليهم كانوا ينتمون لكليات ذات صبغة تطبيقية، بينما كانت النسبة الأقل منتمية للعلوم الإنسانية، وعلى الرغم من أن هذا الأمر لا يطرح إجابة حاسمة، وإنما يقدم لنا مؤشرًا دالًّا على قيمة العلوم الإنسانية التي تسهم بفاعلية في تنمية قدرة متلقيها على قراءة الأحداث بشكل متعمق يجاوز الظاهر المباشر، ولهذا ظلت أعرق الجامعات العالمية تحافظ على التوازن في برامجها التعليمية بين الجانبين التطبيقي والإنساني.

احترام الأسرة والكبار والوقت

يعنى الجزء التالي من وصية هارون الرشيد بترسيخ مبدأ الاحترام، وذلك باستدعاء تجلياته المتعددة، وأولها احترام الرابطة الأسرية وحتمية أخذها بعين الاعتبار في أثناء إعداد برامج تأهيل ولي العهد، ويتسع هذا المبدأ ليشمل القواد الكبار في الجيش، وما يعادلهم من أصحاب القامات في الدولة، ويمثل الوقت التجلي الثالث لقيمة الاحترام، ونلاحظ بلاغة الرشيد في تعبيره عن ضرورة الإفادة من عنصر الوقت، لما يمثله من قيمة ذات شأن عظيم ينبغي اغتنامها بما هو جاد ومفيد، ونتوقف قليلًا عند لفظ «يميت ذهنه» الواردة في هذا الإطار، فالموصي يتعامل هنا مع الذهن بوصفه كائنًا تمددت الحياة في شرايينه بما يكتسبه من علوم ومعارف على مدار عمره، ويدب العجز والشيخوخة في أواصره إذا لم يتم تغذيته بهذه المعارف واستبدال اللهو وإضاعة الوقت بها.

الثواب والعقاب

تختم الوصية بالتأكيد على مبدأ بالغ الأهمية في التربية وهو مبدأ الثواب والعقاب، ونلاحظ أن الرشيد كان يعي أن الأصل هو الإثابة والمكافأة بوصفها أداة مهمة في الترسيخ لمبدأ الحافزية التعليمية، أما العقاب فهو البديل السلبي لمبدأ الإثابة، وربما يظن ظان أن المؤدبين لم يعيروا مبدأ العقاب بالًا، واكتفوا بمبدأ الثواب لإدراكهم أنهم يؤدبون خليفة المستقبل، إلا أن التاريخ يثبت أن هذا لم يكن صحيحًا، وأن المؤدبين اتبعوا هذه الوصية بحذافيرها وقوّموا أبناء الرشيد مراعين ما طلبه منهم والدهم والدليل على هذا هذه الحكاية التي تعكس اتباعهم مبدأ الثواب والعقاب الذي دعاهم الرشيد لاتباعه، «فعن أبي محمد اليزيدي قال: كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري، فأتيته يومًا وهو داخل فوجّهت إليه بعض غلمانه يعلمه بموضعي فأبطأ عليّ ثم وجهت إليه آخر فأبطأ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تأخر وتشاغل بالبطالة. قال: أجل ومع هذا إذا تأخر تعرّم على خدمه ولقوا منه أذىً فقوّمه بالأدب. فلما خرج أمرت بحمله وضربته تسع درر، قال: فإنه ليدلك عينه من أثر البكاء، إذ أقبل جعفر بن يحيى, فاستأذن وأخذ منديلًا فمسح عينيه وجمع ثيابه وقام إلى فراشه وقعد عليه متربعًا ثم قال: يدخل. فدخل وقمت عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه وحديثه حتى أضحكه وضحك. فلما همّ بالحركة دعا بدابته وأمر غلمانه فسعوا بين يديه ثم سأل عني فجئت فقال: خذ ما بقي من حزني. فقلت: أيها الأمير لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر ولو فعلت ذلك لتنكر لي. قال: إنا لله، أتراني يا أبا محمد كنت أُطمع الرشيد في هذه فكيف جعفرًا أُطلعه على أني أحتاج إلى أدب؟ يغفر الله لك، خذ في أمرك فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدًا ولو عدت في كل يوم مرة».

إن المأمون هنا كان مثل أبيه على وعي كامل بدور العملية التعليمية في إعداده للمرحلة القادمة، ولهذا نلفيه يقدر قيمة معلمه وإن أبكاه، ويحترمه وإن قسى عليه.

قد يسرق الطفل لشعوره بالنقص أو بالحرمان

باحث في الشؤون الأسرية

JoomShaper