أحمد حسين الشيمي
يذكر المستشار الأسري الدكتور حسن بن محمد الحفناوي في كتابه " الأسرة المسلمة وتحديات العصر"، أن الإسلام أولى اهتماماً هائلاً بالأسرة وأولاها من العناية والرعاية ما يكفل لها أن تنتج ثمارها المرجوة، لاسيما أن الأسرة نواة المجتمع، والمجتمعات تتكون منها الأمة، فإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع.
وأول إشارة على ذلك أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام وكوّن له أسرة إذ خلق له حواء وبزواجه منها تكونت أول أسرة على الأرض، فقال ربنا جل شأنه:يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً.
فلما كان للأسرة من شأن وخطر، ومكانة وأثر، فإن الإسلام الحنيف ركز على حسن تكوين الأسرة تكويناً يضمن لها الاستقرار والأمن والدعة.
ويتناول الحفناوي في كتابه: الأسس الشرعية لبناء الأسرة، ومكانة الأسرة في العهد النبوي وفي الخلافة الراشدة، ودورها في التربية والنهوض الحضاري، والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها وسبل تحصينها. الأسس الشرعية لبناء الأسرة:
كما هو معروف فإن الأسرة تنشأ بالزواج، تم تتسع بوجود النسل، فقال الله سبحانه وتعالى:والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لتكوين الأسرة فيقول: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء". ولذلك فإن الإسلام نظم عقد النكاح تنظيماً دقيقاً يكفل الهدف المنشود من الأسرة، كما وضع قواعد وثيقة تسير عليها الأسرة بعد تكونها.
ولاشك أن عقد النكاح أهم عقد في حياة الإنسان رجلاً كان أو امرأة، ولهذا وضع الإسلام من الشروط والأحكام ما ينأى به عن العبث، ويهيئ له المناخ الصالح ليؤتي أكله، فأركان العقد خمسة: طرفاه "الزوج والزوجة" والرضا "وهو إيجاب وقبول" والولي لدى المذاهب الثلاثة المالكي والشافعي والحنبلي، وحتى يكون التراضي كاملاً فإن الإسلام ندب أن يرى كل من طرفي العقد صاحبه قبل العقد.
فقد روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلي ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".
وأهم أركان العقد هو الرضا والإيجاب ـ سواء كان من الرجل كما هو مألوف أم من المرأة ـ والقبول، ولابد من الولي عن المرأة ليس إضعافاً لإرادة المرأة كما زعم المستشرقون وإنما لحمايتها فهي لا تستطيع أن تتعرف حقائق الناس وإنما الذي يستطيع ذلك هو وليها وهو أقرب الناس إليها وأحرصهم على ما يصلحها، بيد أن الأمر لم يترك للولي هملاً بل حرم عليه العضل فإذا تعنت تدخل السلطان، ومع ذلك فإن الإسلام اهتم بإرادة المرأة واعتبرها اعتباراً كاملاً.
فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الأيَّم أحق بنفسها من وليها والبكر تُستَأذن في نفسها، وإذنها صمتها"، فالولي وإن كان أبا ليس له أن يتعنت في إجبار ابنته على الزواج ممن لا ترغب، والإسلام في ذلك قدّر إرادة المرأة بما لم يصل إليه تشريع حتى في زمننا هذا، فعن خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوجها رغماً عنها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرفعت إليه الأمر فرد نكاحها، أي أبطله.
وبلغ من حرص الإسلام الحنيف على حسن تكوين الأسرة أن بيّن للمسلم ـ رجلاً وامرأة ـ المعيار الصحيح في اختيار الشريك وهو معيار الدين، لكن في عصرنا الحاضر نرى أفكاراً مستوردة من بيئات لا تدين بما ندين، تنادي بأن يكون المعيار الأوحد في الاختيار هو ما أسموه بالحب، وهو عندهم أمر قائم على العاطفة فحسب، ومن المعلوم أن العاطفة لها جذوة إذا انطفأت فقد انتهى ذلك الحب.
ولذلك فإن الأسرة أصبحت ـ في المجتمعات غير الإسلامية ـ مقوضة الدعائم، مهددة بالانهيار لأقل بادرة، أما الإسلام الذي حرص أن يكون بناء الأسرة بناء شامخاً، يصمد لأعتى العواصف فإنه جعل معيار الاختيار منطقياً، فقد أهاب بالرجل أن يتخير المرأة المتدينة وذلك لحِكَم عالية، أولها أن التدين يضمن نقاء الأسرة وطهرها، ويجعل الزوج مطمئناً على عرضه وماله وبيته، كما أنها ستلقن أبناءها من تدينها وصلاحها فيشب أبناؤها متمسكين بالدين، حريصين عليه.
والحال أن الإسلام جعل من عقد النكاح عقداً مؤبداً، الأصل فيه أن يدوم طيلة حياة طرفية، ولا يرضى به مؤقتاً، لأن العقد المؤقت لا تستقر به حياة، ولا تتوفر به طمأنينة ولذلك صح في المذاهب الأربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم نكاح المتعة، فعن عليّ كرم الله وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك يوم خيبر.
حقوق الزوجة:
إن الإسلام الحنيف حرّر المرأة مما كان يثقل كاهلها في سائر المجتمعات الإنسانية قبيل إشراق الإسلام، وفي خصوص أهم ما يقابل المرأة في حياتها وهو الزواج فقد قرر الإسلام لها حقوق واضحة، ومن ذلك:
-حقها في إبداء رأيها في زواجها: فقد أوجب الإسلام أخذ رأي المرأة ـ بكراً كانت أو ثيباً ـ في أمر زواجها، وليس هذا الرأي استشارياً بل هو رأي حاسم، بل إن الإسلام ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك مدى، فقد تطلب مشاورة الأمهات في تزويج بناتهن إذا قال النبي صلي الله عليه وسلم:"آمروا النساء في بناتهن".
-حقوق الزوجة على زوجها: ومن أهم حقوق المرأة المهر لقوله جل جلاله:وآتوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلةً، ويرى أهل العلم أن المهر شرط في النكاح، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة وهبت له نفسها فسكت فقال أحد الحاضرين إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها يا رسول الله، فقال له: وما تعطيها؟، قال: ليس لي إلا قميصي، فلما لم يقبل منه قال له: التمس شيئاً ولو خاتماً من حديد فلما لم يجد قال له: أعندك شيء من القرآن؟، قال: نعم، وسمى له بعض السور فزوجه على ذلك، وأوضحت بعض الروايات أنه قال له: فحفظها ما تحفظ وفي رواية للبخاري " أمكناكها بما معك من القرآن".
ومن أبرز حقوق الزوجة بل لعله أهمها النفقة، فيقول الله عز وجل:الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وأهل العلم يقسمون النفقة إلى قسمين: نفقة تمكين، ونفقة تمليك، فالأولى أن يقدر الزوج لزوجته النفقة التي تكفيها بالمعروف، والثاني أن يملكها إياها نقداً أو طعاماً أو أنواعا، وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم قرر نفقة التمكين في غزوة الفتح، عندما جاءته هند بنت عتبة زوج أبي سفيان فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟، فقال: خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف.
-الذمة المالية للزوجة: لعل ما استقرت عليه المذاهب الأربعة أن الزوجة مادامت راشدة فلها ذمة مالية كاملة وجوبا وأداء، وهي مستقلة تماماً عن ذمة الزوج، فلها أن تتصرف في ملكها بكل أنواع التصرف كيفما تشاء بمقابل وبغير مقابل، بغير أذن سابق، أو رضا لاحق.
والحق أن القول بأن المرأة لا تحسن التصرف في المال، قول لا يصادقه الواقع، فكم من النساء، في القديم وفي الحديث على السواء كن تاجرات ماهرات أولهن السيدة خديجة رضي الله عنها، وكم منهن مدبرات لبيوتهن على وجه اقتصادي لا يستطيعه الرجل.
-عمل الزوجة: من القضايا التي شغلت ومازالت تشغل الأذهان نزول المرأة المتزوجة إلى ميدان العمل، فأما منع النساء عن العمل بوجه عام فهو أمر يخالف المعقول والمنقول، يخالف المعقول لأن هناك أعمالا ربما لا تصلح فيها إلا المرأة، كطب النساء حتى لا تلقى النسوة المريضات حرجاً من الاكتشاف بين يدي طبيب رجل، لكن يمكن القول أن الرسالة الأولى للمرأة هي تربية أبنائها، وهي ليست أمراً هيناً فأطفال اليوم هم رجال الغد ونساؤه، وتربيتهم في سني طفولتهم من أهم الركائز التي ترتكز عليها الأمة فيما بعد.
الخلافات الأسرية:
ثم ينتقل المؤلف إلى مناقشة القواعد الإسلامية لانتظام الأسرة بعد تكوينها، ويشير إلى أنه على الرغم من حسن تكوين الأسرة، إلا أنه قد يجد من الحوادث والأقدار ما يهدد مستقبلها، فالأسرة تتكون من بشر، واحتكاك الإنسان بالآخر قد يتولد عنه ـ أحيانا ـ خلاف في الآراء، وتباين في النظر، وربما لا يستطيع الزوجان أو أحدهما استيعاب ذلك، ومن هنا تتفاقم الأمور، حتى تصل إلى خصومات ومشاحنات لو ترك أمرها لفسدت مسيرة الأسرة.
ومن هنا نجد أن الإسلام الحنيف قد حرص كل الحرص على أن يضع من القواعد الدقيقة والضوابط الوثيقة التي تكفل حل ما يعتور سير الأسرة من مشكلات بالطريقة التي تحقق مصلحة الأسرة ومصلحة المجتمع، فجعل للزوج حق في تأديب زوجته إذا ما هي خرجت عن التزاماتها التي يحملها إياها عقد الزواج وعالج هذا الحق علاجا طيباً، فإذا لم يصلح ذلك في رأب الصدع أنشأ محاولة الإصلاح بين الزوجين المختلفين عن طريق حَكَمين، ثم تناول انحلال الزواج بالطلاق.

JoomShaper