ماجد سليمان دودين
إن أعظم قصة زواج في تاريخ الإسلام هي قصة زواج سيدة البنات بنت سيد الأنبياء والآباء صلوات الله عليه وسلامه عليه.. فقد اختار لها الشاب الفقير علياً رضي الله عنه من دون الصحابة الأغنياء الذين ألحوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ليظفروا بمصاهرة نبيهم.. صاحب الخلق العظيم ورحمة الله للبشرية - صلى الله عليه وسلم
يقول أنس رضي الله عنه: في يوم الزواج دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه ثم خطبهم قائلاً: الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه وأكرمهم بنبيه الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم
إن الله تبارك وتعالى اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سبباً لاحقاً وأمراً مفترضاً أوشج به الأرحام وألزم به الأنام فقال عز من قائل: "وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً (54)".. سورة الفرقان
فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه وقضاؤه يجري إلى قدره.. ولكل قضاء قدر ولكل قدر أجل ولكل أجل كتاب.. "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" سورة الرعد (39). ثم إن الله عز وجل أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني زوجته على أربعمائة مثقال فضة. إن رضي بذلك عليّ ثم دعا - صلى الله عليه وسلم - بطبق من بر ثم قال: انتبهوا فانتبهنا، ودخل علي فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه ثم قال: ((إن الله عز وجل أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة.. أرضيت بذلك))؟ فقال علي: رضيت بذلك يا رسول الله...

فقال عليه السلام: ((جمع الله شملكما، وأعز جدكما، بارك عليكما وأخرج منكما كثيراً طيباً)).

يقول أنس: ((فوالله لقد أخرج منهما الكثير الطيب، وقد ألم علي على فاطمة بشطر من شعير وتمر.. وكان جهازها خميلة وقربة ووسادة حشوها ليف.. ونظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: (مرحباً بجهاز المساكين).

هذه قصة زواج سيدة نساء الجنة.. مهرها لا يزيد عن أقل إسوار من الفضة تلبسها أفقر امرأة اليوم، وجهازها ما يدمع العين ولكن حبيبنا وأسوتنا وسراجنا المنير - صلى الله عليه وسلم - قال عنه:(مرحباً بجهاز المساكين) فهو الذي أبى الجبال ذهباً..

هذه القصة العظيمة أسوقها إلى صنفين من الناس: صنف الغرباء وصنف التجار...

أما صنف الغرباء فهم طائفة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على الحق ظاهرين.. غرباء لأنهم يتحركون ضد تيار المادية والأنانية فهم متميزون في تفكيرهم يؤمنون أن الزواج علاقة روحية سامية وارتباط إنساني جميل.. ورحلة من المودة والسكن والرحمة.. يسّروا فيسر الله لهم وعليهم ويسّر بهم..

أسوق لهم هذه القصة من سيرة قدوتهم وقائدهم ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم بأنهم على الحق ومعه وبه من العاملين.. وليزدادوا إيماناً على إيمانهم بأنهم لسنة نبيهم عليه السلام من المطبقين.. وليزدادوا اطمئناناً بأنهم من الفائزين في يوم لا ينفع فيه إلا القلب السليم.

أمّا التجار وهم للأسف السواد الأعظم من هذه الأمة.. يؤمنون بأن الزواج صفقة مادية وبأن فتياتهم بضائع تعرض في هذا السوق المحموم للمزايدة ولمن يدفع أكثر..

أسوق هذه القصة لهم لأذكرهم بأنهم يظلمون أبناءهم وبناتهم ويظلمون أنفسهم.. يعسرون على غيرهم فيعسر غيرهم عليهم ثم يضطرون للبحث لفتياتهم عن أزواج وهم يرون أن قطار الزمن يفوتهن وأنهن يتعذبن نفسياً وفي طريقهن للجوء إلى المنكر الأكبر وإلى الفاحشة التي ساءت سبيلاً.

إن التاريخ يحدثنا أن المهر كان في كل أطواره يتسم بالبساطة واليسر ويكون من نوع الموجود في كل زمن وبيئة.

فالأعرابي يمهر زوجته جملاً أو بعض شويهات، والفلاح يمهرها نخلاً أو ثمراً أو أرضاً، والتاجر يمهرها بعض النقود أو بعض الأطعمة والملابس والصائغ يمهرها شيئاً من إنتاجه، والعالم والمتعلم يمهرها شيئاً من عمله إذا لم يجد غيره.

وهكذا لم يحتم الله علينا أمراً معيناً ولم يعقد - برحمته - الحياة على خلقه، ولكنهم هم أنفسهم يسعون لتعقيد حياتهم وربطها بتقاليد تبعد كثيراً عن أهداف الزواج ومراميه السامية ومن هذا نعلم أن المهر في أصله عمل نبيل وشرعة حسنة وسبب مبارك لبدء حياة زوجية سعيدة وبناء علاقة شريفة ولكن الناس صرفوه عن حقيقته.

ولعل من المفيد أن أذكر هنا النتائج الوخيمة المترتبة على التغالي في المهور - كما ذكر الشيخ المسند - علنا نثوب إلى رشدنا ونعود إلى سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. أما النتائج فهي كما يلي:

1- بقاء الرجال أيامى، وبقاء البنات عوانس، وهذا معناه تعطيل الزواج وإيقاف سنة الله في الأرض.

2- حصول الفساد الأخلاقي في الجنسين لأنهم عندما ييأسون من الزواج يبحثون عن بديل لذلك.

3- كثرة المشكلات الاجتماعية بسبب عدم جريان الأمور بطبيعتها، ووضع الشيء في غير موضعه.

4- حدوث الأمراض النفسية في صدور الشباب من الجنسين بسبب الكبت وارتطام أفكارهم بخيبة الأمل.

5- خروج الأولاد عن طاعة آبائهم وأمهاتهم، وتمردهم على العادات والتقاليد الكريمة الموروثة.

6- عزوف الشباب عن الزواج بالمواطنات ورغبتهم في الزواج من غيرهن وهذا أمر من الخطورة

بمكان، إذ يترتب عليه مشكلات لا حصر لها فيشقى الرجل بحياته الزوجية التي ارتبط بها بامرأة تخالفه في الفكرة والبيئة والعادات والرغبات.

إن البنات أنفسهن يكرهن التغالي في المهور لما يعلمنه من وقوفه حجر عثرة دون زواجهن، وتحقق أملهن، وهن اللاتي يصطلين بنار الوحدة والحرمان، ولكنهن لا يفصحن عما في أنفسهن بل يمنعهن الحياء، فرحمة بهن أيها الناس.. رحمة بمجتمع يسير نحو الهاوية والدمار.

وبعد: اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان، وعقولنا بنور المعرفة وأدخلنا برحمتك التي وسعت كل شيء واجعلنا من الغرباء الذين يصلحون من سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أفسد الناس.

الوصية العظيمة

((يا رجل اتق الله فينا ولا تأت لنا إلا برزق حلال فإننا نستطيع الصبر على الجوع في الدنيا ولا نستطيع الصبر على العذاب في الآخرة)).

هذه الوصية العظيمة من الصحابية المؤمنة لزوجها المؤمن.. تستوقفه على باب البيت قبل الخروج للمشي في مناكب الأرض في طلب الرزق..

تودعه بهذه الكلمات... تزرع فيه مخافة الله وخشيته وتعززها... وتبعث فيه روح الهمة والنشاط وتحثه على الصبر وعلى الكسب الحلال الطيب... فيخرج من بيته كشلال من إيمان وتفاؤل وأمل.. يخرج باسم الثغر منشرح الصدر مطمئناً بالإيمان متوكلاً ومعتمداً على الرحمن.

نسجت المرأة المؤمنة خيوط هذه الوصية بأحرف من نور في زمن فهمت فيه المرأة البداية والنهاية وعرفت الهدف والغاية..

لقد كان البيت مملكة.. مملكة تكليف قبل أن تكون مملكة تشريف.. الرجل ملكها.. والمرأة ملكتها.. يتعاونان لتصل سفينة الأسرة إلى بر الأمان.

أما في هذا الزمن المظلم.. زمن التحرير والمساواة.. زمن الفتن الذي انعكست فيه القيم وانقلبت الموازين فإن المرأة تستوقف زوجها على باب بيته قبل أن يخرج ليمارس كعادته العي بنهم وأنانية وليركض عبر شوارع الحياة ركض الوحوش في البرية و ليمارس التنافس والصراع والتطاحن بعد أن زودته زوجته بقائمة طويلة عريضة من الكماليات واللاضروريات وتأمره بعدم العودة إلى قفص الزوجية إلا وقد أحضر كل محتويات القائمة كيفما اتفق وبأي طريق من الحرام أو الحلال لا فرق.. وإن لم يفعل فالويل له.. هذا إذا لم تكن هي ذاتها قد تركته وأبناءه لخادمة سيرلانكية أو فلبينية لا تجيد لغة أو طبخة عربية وخرجت متبرجة تزاحم الرجال بالمناكب وتعمل معهم في المكاتب ثم تقبض الراتب وتتجه على جناح السرعة تدفعه إلى ((كوافير)) يجيد تسريحة أوروبية.

لقد طالبت المرأة بالتحرير فتحررت من الحياء والفضيلة والعفة والإنسانية.. بينما طالبت الصحابية العربية المؤمنة أسماء بنت يزيد الأنصارية بتحرير من نوع عجيب.. لقد أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع بعض أصحابه وقالت: ((يا رسول الله.. أنا وافدة النساء إليك وقد أرسلك الله إلينا رجالاً ونساء.. ولكنكم معشر الرجال فضلتم عنّا بالجمع والجماعات والحج والجهاد ونحن قعيدات بيوتكم، نغزل ثيابكم، ونربي أولادكم ونصنع طعامكم ونحفظ أموالكم ونصونكم إذا غبتم.. أفلا أجر لنا معكم؟!))

فاستدار - صلى الله عليه وسلم - بكل وجهه الشريف المنير الطاهر إلى أصحابه وقال: (أسمعتم مقالة امرأة في أمر دينها كهذه؟)

قالوا: لا يا رسول الله.

فنظر إليها - صلى الله عليه وسلم - وقال:

((أيتها المرأة، اعلمي وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله)). وحين سمعت وعلمت أن حسن معاملتها ومعاشرتها لزوجها ورفيق دربها وحبيب قلبها يعدل الجمع والجماعات والحج والجهاد انصرفت وهي تكبر حتى اختفت عن مجلسه - صلى الله عليه وسلم -.

لقد طالبت خطيبة النساء ومندوبتهن "أسماء" التي نطقت بألسنتهن بأن تتساوى المرأة في الأجر والثواب مع الرجل فلما اطمأنت إلى أن أجرها على حسن معاملتها زوجها يعدل أجر الجمع والجماعات والحج والجهاد عادت مكبرة إلى بيتها.. إلى عشها إلى أسرتها.. إلى مملكتها.. تغزل الثياب.. وتربي الأبناء تربية إسلامية.. وتصنع الطعام وتحفظ مال زوجها وتصون فرجها لتسمع يوم القيامة نداء ربها: ((أين التي صلت خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها أدخلي الجنة من أي الأبواب شئت)).

لم تكن المرأة المؤمنة تريد من زخارف الحياة وزينتها ومتاعها وأثاثها شيئاً.. لقد كانت تريد الزوج الذي يعلمها الطريق إلى جنة ورحمة ربها..

والطريق إلى الجنة محفوف بالمكاره.. لأن الجنة سلعة الله الغالية.. ولا بد من التضحية للحصول على تذكرة إلى الجنة..

لقد سجل تاريخنا في حقبته المشرقة بين أروقته وفي ثنايا أوراقه أن أرملة شابة عادت من الشام إلى الحجاز صفر اليدين لا يكاد يسترجسدها إلا ثياب خشنة، أقرب إلى الأسمال البالية.. فما أن رآها أهلها حتى هالهم الأمر. وفي عجب ودهشة راحوا يتساءلون: ((أهذه زوج والي حمص وما حولها؟))

والشام يومئذ من أغنى بلاد الدنيا، ينعم أهلها بالثراء بما فيها من ثروات وما تمتاز من مركز تجاري كبير بين الشرق والغرب، وما بلغتهم من مستوى رفيع في ذلك العصر.. ولم يتمالك أحدهم أن سألها عمّا ورثته عن سعيد بن عامر، فكان جوابها جواب المرأة المؤمنة:

"والله لقد ورثت عنه ما لا يوزن بمال الدنيا وما فيها.. لقد علمني القناعة والتقوى والورع.. ألا تعلمون من هو سعيد بن عامر؟"

تفتخر بالقناعة والتقوى والورع وحق لها الافتخار بهذه المعاني الكبار لأنها الضوء الأخضر- بعد رحمة الله - إلى الجنة ورضوان الله.. وتلتفت الأم إلى ابنتها الأرملة، وتربت في حنان على ظهرها، وهي تهمس ((أهذا كل إرثك يا بنيتي؟)).

وتجيبها الابنة المؤمنة وهي تحبس عبراتها:

((إنه الكثير.. وإني والله لأرجو أن أكون معه في الجنة))

"إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون (57) سلام قولاً من رب رحيم (58)" سورة يس.

JoomShaper