عبدالرزاق السيد /خاص ينابيع تربوية
الحمد لله الخلاق العليم الرءوف الرحيم؛ قذف الرحمة في قلوب الأمهات، حتى إن الدابة العجماء لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه رحمة به، نحمده على هدايته، ونشكره على رعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الدين لعباده، وقسم الحقوق بينهم، فأعطى كل ذي حق حقه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى من حَوْلَهُ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أيها المسلمون :حديثنا اليوم عن قلب يضخ الحب والعفو بلا حساب , و صدر ينفث عطر الأمن والأمان بلا مقابل , و وجه يُعرف بإشراق من نور الله . هي المعنى الذي صنعه الله من رحمة خالصة ومن حب خالص ومن غفران خالص , لا يغيره كدر إذا ضحكت .. ضحكت الدنيا بأسرها , وإذا بكت .. بكت الأرض والسماء كم حزنت لتفرح، وجاعت لتشبع، وبكت لتضحك، وسهرت لتنام، وتحمّلت الصعاب في سبيل راحتك، إذا فرحت فرحت، وإن حزنتَ حزنت، إذا دَاهمك الهمّ فحياتها في غمّ، أملها أن تحيى سعيدًا رضيًّا راضيا مرضيًا، إنها الأم المخلوق الضعيف الذي يعطي ولا يطلب أجرًا، ويبذل ولا يأمل شكرًا، هل سمعتَ عن مخلوق يحبّك أكثر من ماله؟
لا، بل أكثر من دنياه، لا، بل أكثر من نفسه التي بين جنبيه، نعم يحبّك أكثر من نفسه، إنها الأم، الأم وكفى، رمز الحنان الأم وما أدراكم ما الأم ، الجنة تحت قدميها ، وباب إلى الجنة بين يديها ، عقوقها نار ، وجحدها جرف هار ، الأم مربية الأجيال ، ومعدة الأبطال ، ومخرجة الرجال ، إنها الأم هي التي حملتك في بطنها أشهراً تسعاً وتحملت آلام الحمل والوضع حتى كأنها ترى الموت رأي عين ، ثم قاست وجع الوضع آلاماً جسام ، ثم بعد ذلك أرضعتك حولين ، وتكبدت المشاق والتبعات في رعايتك والعناية بك وتحملت التعب الكثير في تمريضك والاهتمام بك وكثرة الخدمة والتربية والحنان والإشفاق عليك وهي تسهر الليالي من أجل راحتك، وتقوم بك حال صراخك، وتحتضنك عند خوفك وقلقك واضطرابك، كانت تفديك بنفسها من كل شر ومكروه، تجوع هي لتشبع أنت ، وتعطش هي لتروى أنت ، تسهر هي لتنام أنت .
هذه هي الأم ولذلك استحقت حقها مضاعفاً ثلاث مرات على حق الأب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : (( أبوك)) [ متفق عليه ] .وفي رواية لمسلم : يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة ؟ قال : (( أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك )) ، فحق الأم مضاعف على حق الأب بثلاثة أضعاف .
وتوصل الأم وتبر وتطاع وإن كانت غير مسلمة لحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت : قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : قدمت على أمي وهي راغبة ( طامعة عندي تسألني شيئاً ) أفأصل أمي ؟ قال : (( نعم صلي أمك )) [ متفق عليه] .
وما وافقها النبي صلى الله عليه وسلم على صلتها لأمها إلا لعظم حق الأم عند الله تعالى، وأنها مقدمة في البر على غيرها لأنها ضعيفة لا تأخذ بحقها، ولا تستطيع الدفاع عن نفسها ، فهي تحتاج إلى من يدافع عنها ويساعدها على تدبير أمورها وقضاء شؤونها لها وتوصيلها لزيارة رحمها وإعادتها، وغير ذلك من الأمور التي لا تستطيع أداءها بنفسها .
وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنهما أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( هل لك من أم )) ؟ قال : نعم ، قال : (( فالزمها فإن الجنة عند رجلها)) وفي رواية : (( الزمها فإن الجنة تحت أقدامها)) [ النسائي وأحمد بسند صحيح] .
قال بن عباس رضي الله عنهما : (( إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة )) [ البخاري في الأدب المفرد .
وبر الأم من الأمور التي تساعد على جلاء المعصية وذهاب حرها بإذن الله تعالى إذا وجد من صاحب المعصية أو الذنب التوبة والإقبال على الله تعالى والإنابة إليه سبحانه ، فقد روي عن أبي بكر بن حفص أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أصبت ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ قال : هل لك من أم ؟ قال : لا ، قال : هل لك من خالة ؟ قال : نعم ، قال : فبرها ] ( حديث حسن رواه البغوي في شرح السنة ) ، وفي الحديث المتفق عليه ، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ الخالة بمنزلة الأم ] وعن أبي بردة أنه شهد بن عمر، ورجل يماني يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره ثم قال : يا بن عمر ؟ أتراني جزيتها ؟ قال : لا ، ولا بزفرة واحدة )) [صحيح الإسناد وهو عند البخاري في الأدب المفرد] .
فانظر إلى ذلك الرجل الذي حمل أمه على ظهره وطاف بها حول الكعبة سبعة أشواط، على ما في ذلك من مشقة وألم، وتعب ونصب ، ثم سأل بن عمر، هل جازى أمه على ما قامت به من حمل وولادة وإرضاع ورعاية وعناية وتكبير، فأجابه بن عمر، لا، ولا بزفرة، أي ولا بطلقة واحدة من طلقات الولادة - فلا إله إلا الله - كم في زماننا هذا، من يبكي أمه ظلماً وعدواناً ، وقسوة وعقوقاً ؟ فكم من عاق لها ؟ وكم من محزن لها ؟ فأين هؤلاء القوم عن أولئك السلف، رحم الله الأولين والآخرين .
أما العقوق - أعاذنا الله جميعاً منه - فإنه محرم ، ممقوت صاحبه ، متوعد بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة ، وهو مقرب للنيران ، ومبعد عن الجنان فهذا القاسي القلب ، الجاحد الناكر ، الشقي النفس، الخبيث الطباع، المتحجر الضمير، الذي يريد كل شيء لنفسه فكل همه أن يأخذ ولا يعطي، ويُخدم ولا يَخدم، يطيب كلامه مع الناس، ويسوء مع أمه، يتحبب ويتودد إلى الناس، ويتنكر لامه، يتبسم في وجوه الآخرين ويعبس في وجه أمه ويختار الكلمات النابية لامه، وينظر إليها بعين الجحود، ويتصرف معها بوحشيه وهمجية وبأمور تسلطية تعسفية ، يذل أمه ويبكيها ويبطش بأبيه ويرميه ويعز زوجته ويرضيها، إذا حصل شجار بين أمه وزوجته أسرع إلى إرضاء زوجته، وخطأ أمه وأشبعها سباً يأكل وزوجته وتجوع أمه ، يشتري لزوجته أفخر الملابس وأغلاها وأحسنها، وإذا وجد مع أمه قميصاً أو قميصين اتهمها بالتبذير والبذخ، يكرم زوجته، ويهين أمه المسكينة التي حملته أشهرا عدة، صامت ليأكل، وعطشت ليروى، وقامت ليقعد، وسهرت لينام، وحزنت ليفرح، ثم قابل ذلك كله بالجحود والعقوق ، قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ )) (ثلاثا) ، قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : (( الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وجلس وكان متكئاً ألا وقول الزور )) فما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت .
فحال هذا العاق مع أمه، حال محزنة، إلا ليعلم العاق أن دمعة الأم ناراً ووبالاً ، فرضى الله من رضاها، وسخطه سبحانه من سخطها والظلم ظلمات يوم القيامة، قال تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والأنس إنهم كانوا خاسرين } [ الأحقاف17/18 ] .وقال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } [ الإسراء23/24 ] .
الخطبة الثانية
أيها الناس: من أراد عظيم الأجر والثواب فليعلم أن الأم باب من أبواب الجنة عريض، لا يفرط فيه إلا من حرم نفسه، وبخس من الخير حظه، وقد تردد مُعَاوِيَةَ بن جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات يسأله الجهاد، وفي كل مرة يقول له:«وَيْحَكَ! أحية أُمُّكَ؟ قال: نعم يا رَسُولَ الله، قال: وَيْحَكَ الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ»رواه ابن ماجه، وفي رواية لأحمد قال: الْزَمْهَا فإن الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا».وأخذ منه بعض الصالحين تقبيل رجل الأم، فكان يقبل قدم أمه كل يوم، فأبطأ على إخوانه يوماً، فسألوه فقال:«كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات».
ولما ماتت أم القاضي إياس بكى فقيل:«ما يبكيك يا أبا واثلة؟ قال: كان لي بابان مفتوحان من الجنة فأغلق أحدهما». وكان مذهب ابن عباس رضي الله عنهما أن بر الأم أفضل الأعمال، وقال:«أني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة»، وهو مذهب جماعة من السلف. وقال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل عنده أمه:«والله لو ألفت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر».
فأين الناس في بر أمهاتهم، والعناية بهن، والقيام على خدمتهن من هذه الأحاديث والآثار العظيمة في حق الأم، وفضيلة برها؟!ومن فتش في حاله مع أمه وجد كثيرا من العقوق لا يفطن إليه، وتصرفات لا يلقي لها بالا وهي من العقوق.. فحذار حذار -عباد الله- فإن حقوق أمهاتنا علينا كثيرة، وإن برهن من أعظم الواجبات، والنصوص فيه كثيرة، يكفي منها وصية الله تعالى للمسيح عليه السلام التي نطق بها وهو في المهد [وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا] {مريم:31-32}..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأم أيتها الغالية
- التفاصيل