إعداد: رضوى فرغلي
الغيرة.. شعور مؤلم، جارح، مُهدّ.د لكيان الذات.. شعور يجعلنا عرايا نفسيا أمام ذواتنا، ويشتعل في القلب مثل نار موقدة لا تنطفئ أبدا، نجترّ الهواجس فتؤرق ليلنا وتزعج نهارنا وتجعلنا وشريكنا مثل فأرين في مصيدة مُحكمة.. أهي غيرة على المحبوب، أم شعور موجع بتهديد الذات؟! أهي خوف من فقد الشريك أم من فقد الأمان النفسي والعودة مرة أخرى الى نقطة بدائية من الوحدة؟!
اشتكت لي نورة من غيرة زوجها القاتلة التي تصل إلى حد الشك في سلوكها، مما جعل الحياة بينهما تدخل في نفق مظلم. تقول: زوجي إنسان طيب، من أسرة متواضعة ماديا واجتماعيا، كافح حتى وصل إلى مركز مرموق، تزوجنا بطريقة تقليدية، لكنني أحببته وحرصت على إرضائه، ورغم أنه عصبي جدا، إلا أنني حاولت التماس العذر له من ضغوط الحياة والعمل وأن أتسامح مع عصبيته وعدم مراجعته لنفسه أو اعتذاره لي عن أخطائه في حقي وسبه لي أحيانا لأسباب تافهة. تكمن مشكلتي معه في غيرته الشديدة التي دائما ما يبررها لي بالحب والخوف علي من أي رجل آخر. تطور الأمر فأصبح يراقبني ويفتش في هاتفي النقال وحقيبة يدي. في البداية كان يفعل ذلك من دون علمي، وحين أسأله لا ينكر ويرد بعصبية: «هذا حقي، أي امرأة يمكن أن تفعل أي شيء».
ازداد الأمر سوءا، فأصبح يفعل ذلك أمام عيني من دون خجل، بل ويكلمني في اليوم الواحد عشرات المرات، حتى يتأكد أن هاتفي غير مشغول، ولم أجد من الكلمات ما أبرر بها لأولادي سلوك والدهم، خصوصا أنني لا أخرج وحدي إطلاقا إلا إلى العمل، أما الزيارات والتسوق والمناسبات، فإما معه أو مع أولادي أو مع الأهل. ازداد حزني حين رأيت سائقه الخاص يتتبعني أكثر من مرة وكأنه مخبر يراقبني، فواجهته بقوة ورفضت هذا الأسلوب الفاضح لنا أمام الآخرين، وطلبت منه الطلاق إذا كان يشك في سلوكي أو يعتقد أنني أخونه.
ذهبت إلى بيت أهلي لمدة ثلاثة أسابيع، فعاد واعتذر لأسرتي وبكى أمام أولاده. وقال إن الأمر غير مرتبط بسوء سلوكي أو ملاحظته أي شيء خاطئ من جانبي، لكنه لا يثق بأي امرأة، وسيحاول معالجة هذا الأمر مع نفسه. عدت إلى بيتي، لكن سرعان ما عادت حالته كما كانت بل أسوأ، فيقول لي إنه مسافر لمدة يومين في عمل، ثم أفاجأ به عائدا في اليوم نفسه من دون أن يخبرنا ويدخل البيت وكأنه يفتش عن شيء ما، على الرغم من أنه يجبرني على عدم الخروج من منزلي طول فترة سفره، إلا إلى العمل فقط، ويتصل هاتفيا بالأولاد والخدم حتى يعرف موعد خروجي من البيت وعودتي إليه. أصبحت الحياة جحيماً، وأتمنى الموت أو الطلاق.
غيرة متبادلة
لا تقتصر الغيرة المدمرة على الرجال وحدهم، إنما النساء أيضا، زوجات كثيرات يدمرن حياتهن ويفسدن علاقتهن مع أزواجهن بسبب الغيرة اللامنطقية التي تقوم على الوهم أو تضخيم الأمور أو عدم إدارة العلاقة الزوجية بشكل إيجابي. أخبرتني زوجة أنها لا تثق بزوجها أبدا ودائما تعتقد أنه على علاقة بنساء أخريات وأنها رغم عدم وجود دليل مادي لديها على خيانته إلا أنها لا يمكنها مقاومة هواجسها تجاه سلوكه، واضطرت إلى وضع كاميرات مراقبة في المنزل وفي مكتبه وجهاز تنصت على هاتفه اشترته بمبلغ كبير، حتى تتبع خطواته ومكالماته مع الآخرين، بل وتجند بعض موظفيه للتجسس عليه ونقل أخباره بالتفصيل إليها مقابل راتب شهري تدفعه لهم.
أزواج كثيرون، تتملكهم مشاعر الغيرة القاتلة التي تضطر الشريك إلى إنهاء العلاقة بالطلاق، أو الاستمرار فيها والتعامل معها مثل مرض عصي على العلاج، مما يوثر في الأطفال وتكوينهم النفسي والاجتماعي. أو قد يبحث الشريك عن حيل أخرى للخداع والهرب من المطاردة اليومية.
إن الغيرة تعني أن ثمة شيئا ما خاطئا في منظومة الحب، فهي عَرَض على اضطراب داخلي وليست هي المرض ذاته، فليس هناك مرض نفسي أو اجتماعي اسمه الغيرة، إنما هي مثل الصداع تدل على خلل ما في علاقة الإنسان بذاته أولاً وبالتالي علاقته بالآخر. من المهم أولا التفريق بين وجهين للغيرة:
الأول: الغيرة المقبولة التي تشعر الشريك بوجوده وأهميته في العلاقة والحرص عليه وعلى كل ما يتعلق به، وعدم قبول المساس به أو إغوائه أو التفريط فيه، وتكون محتملة بل ومرغوبة من الطرفين، لأنها في الحيز المعتدل الذي لا ينغص الحياة الزوجية، لأن منطلقها الثقة وليس الشك، والقيم الدينية والاجتماعية تحثنا عليها، نظرا لاحتياج الإنسان إليها نفسيا وعاطفيا، فكل منا يشعر بالقلق تجاه العلاقة إذا لم يغر عليه شريكه ويعتبر أن ذلك دليل على عدم الحب.
الآخر: تفعيل مشاعر الغيرة بدرجة غير محتملة لتصبح عاملا مهددا للعلاقة وخانقا للشريك وباعثا على السأم والملل، وقد تتجاوز ذلك لتصل إلى الشك والتخوين والمراقبة، كما في حالة نورة أو غيرها، وهي حالة تؤدي إلى «خراب البيوت» ولا تمنع وقوع أي محظور، بالعكس قد تضغط في اتجاهه كرغبة في الخلاص من واقع مرير. فالتجسس والتنصت على الشريك أو مفاجأته بالزيارة أو تفتيش أغراضه أو مراقبته، هي أمور غير مقبولة دينيا واجتماعيا، ولا تعتبر رادعا أو واقيا من خيانة الشريك، لأن من يفكر في سوء، إن لم تمنعه أخلاقه وقيمه ومبادئه وحبه لشريكه، فسيجد لنفسه ألف مخرج وألف وسيلة لفعل ما يريد. على الرغم من أن الطريقتين السابقتين هما على متصل الغيرة نفسه بدرجات متفاوتة، لكن ما يهمنا هنا هو مناقشة السلوك الثاني للغيرة، لأنه يعترض طريق الحياة الزوجية ويجعلها على محك الخطر.
مشاعر قديمة
ليست الغيرة ضيفا جديدا على السلوك البشري، إنما هي قديمة وموغلة في التكوين الإنساني، تتزايد وتنقص بحسب تناغم الإنسان مع ذاته وتقبله لها وشعوره بالأمن الداخلي. وقد احتلت مشاعر الغيرة مكانا بارزا في القصص والدراما، لعل أشهرها تراجيديا «عطيل» لشكسبير، التي كانت تجسيدا لمشاعر الغيرة الدامية، حيث أدت به في النهاية إلى قتل حبيبته «ديدمونة» ثم العويل بقربها وكأنه ينعي ذاته الممددة أمامه قتيلة.
إن الغيرة، كسلوك مدمر، لا تظهر فجأة، إنما هي نتاج نهائي لعذاب مستمر بين الشخص وذاته، وأوهام جالت بعقله، وأرهقت تفكيره، سواء استندت إلى الواقع وأفعال حقيقية من جانب الشريك أو لا، لأنها صراع ذاتي قبل أن تكون صراعا واقعيا مع الزوج أو الزوجة. أسئلة تجول في عقل الشريك: هل يحبني؟ ولماذا؟ هل أنا جدير بهذا الحب؟ هل سيظل يحبني ولا يذهب إلى غيري الأفضل مني جسديا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا؟ !
إن المستوى اللاشعوري الأول للغيرة هو شكوك الفرد بذاته وعدم رضاه عنها واشتباهه بجدارته، ثم يأتي المستوى اللاشعوري الثاني وهو مقارنة الذات بالآخرين المحيطين بالزوج أو الزوجة في العمل أو الحياة الاجتماعية أو الأسرة أو بآخرين من صنع الخيال، يشعر الزوج أن زوجته مثلا تفضل عليه شخصا آخر، لأنه أكثر جاذبية أو أعرق نسبا أو أغنى ماديا أو لأي سبب آخر، وغالبا لا تحسم المقارنة لمصلحته.
شخصية شبحية
غالبا ما يعود أصل هذه المقارنة إلى طفولة الشخص وإحساسه بالنقص، وتفوق زملائه وأقرانه عليه، وشعوره دائما بالخسارة حتى وإن كسب مالا أو وضعا اجتماعيا جيدا، كما في حالة نورة، لكن يبقى الشك في قدرته على جذب زوجته باقيا راسخا داخله لأنه يعتقد نفسه فاشلا في الاحتفاظ بأي نجاح أو شريك. ويتطور الأمر بالإنسان الغيور إلى أن يصل إلى المستوى الأخير، ويكون واضحا لديه وواعيا به إلى حد اليقين أن هناك شخصا آخر تحبه زوجته، حتى وإن أثبتت كل وسائل مراقبته وتجسسه عليها وتفنيده للأمور منطقيا أنها بريئة، لكن يظل هذا الهاجس يؤرقه ويفسد عليه الحياة، ويحاول إسقاط هواجسه على أي شخص يقترب منها، حتى وإن كان من المحارم في بعض الحالات المتطرفة، وإن لم يجد شخصا، فإنه يختلقه في خياله، وكأنه يبحث عن رجل ليغار منه، أو في حالة الزوجة الغيور تبحث عن امرأة لتغار منها، وهنا يصبح الغريم شخصية شبحية أو تجسيدا لشخص أفضل يراود خياله وكأنه بديل لذات أفضل.
نلاحظ أن الشخص الغيور لا يحاول إيجاد دليل مادي قاطع على إثبات شبهاته، وإذا حاول الشريك إثبات براءته أو تفنيد هذه الشكوك، يتراجع الغيور ولا يريد المناقشة، ويكتفي بالاعتذار الفارغ من دون الخوض في التفاصيل، لأن اعتقاده بخيانة الشريك هو اعتقاد راسخ لا يمكن زعزعته لأن جذوره بالغة العمق في الشك الذاتي وشعوره بعدم جدارته اللذين يحيلهما إلى الشريك. كما أن الغيور يكون في حاجة دائمة لأن يثبت له شريكه أنه يحبه ويفضله على العالمين، وهي حالة نهمة ومفرطة من الاحتياج إلى الحب لا تشبع لأن الشك النابع من الداخل من الصعب إزالته ببراهين العاطفة وتعبيراتها المقنعة، إنه افتقاد للأمن الداخلي، وتقدير الذات، والثقة في النفس ونجاحاتها وقدراتها، إنها القناعات اللاشعورية تجاه أنفسنا.
آثار سلبية
إن للغيرة آثارا سلبية على علاقة الزوجين، فمهما كان الطرف الآخر مقدرا لمشاعر شريكه الغيور ومحبا لها في أوقات معينة فانه لا يحتمل الشك في سلوكه واتهامه بالخيانة ضمنا أو مباشرة، الأمر الذي قد يجعله تحت وطأة الشك المستمر، وخضوعا للحظة ضعف، قد يفكر في الخيانة فعلا من باب أنه في كل الأحوال مشكوك فيه وغير قادر على إثبات براءته ودوما في موقف المدافع عن نفسه وسلوكه، وهنا يكمن الخطر، فبدلا من أن يكون الزوجان يواجهان مشكلة الغيرة، يصبحان أمام مأزق حقيقي في العلاقة قد لا يغتفر وينهي العلاقة الزوجية بشكل مشين ومدمر للطرفين.
كما يتأثر الأطفال بشكل عميق، خصوصا إن كانوا في سن صغيرة، لأنهم يشهدون خلافات مستمرة لأسباب حساسة في العلاقة الزوجية، مما يساهم في تكوين صورة مشوهة للأبوين، ويمنحهم طريقة سلبية للتعامل مع زوج المستقبل، ويزيد لديهم القلق والتوتر والإحباط النفسي والخجل الاجتماعي، ويخفض من تقديرهم لذواتهم وثقتهم في أنفسهم وتفاعلهم الاجتماعي مع الآخرين، حيث ان الطفل يكون صورة إيجابية أو سلبية عن الأبوين، وبالتالي عن الذات، من خلال تعامل الأب والأم بعضهما مع بعض، ويعود ليسقطها مرة أخرى على شريكه في المستقبل، وكأنها دائرة مفرغة تعيد نفسها مرة أخرى. إضافة إلى أن الغيرة سبب أساسي في حالات طلاق كثيرة، لم يستطع أحد الطرفين احتمال حياة موجعة نفسيا فيفضل الطلاق كحل أخير ومؤلم.
قارب نجاة
إن العلاقة الإيجابية مع الذات والآخر تحتاج دوما إلى مراجعة النفس والوقوف معها وقفة صادقة حتى وإن كانت مؤلمة، لكنها حتما ستكون مثل قارب النجاة الأخير الذي ينقذ العلاقة من غرق محتم بسبب شعور سلبي يجعل صاحبه مثل المعتقل في أحاسيس طفولية يمكنه تجاوزها والانفلات منها إن أراد ذلك.
من المهم أن يستوعب كل إنسان شريكه ويفهم طباعه وطريقة تفكيره وعدم الاقتراب من الخطوط الحمراء في شخصيته، بمعنى أن يتجنب الوقوع في شرك الشبهات حتى لا يثير غيرته، فبالرغم من أن الغيرة العمياء ترجع إلى مشاعر ذاتية وإحساس الفرد نفسه بعدم الثقة وانخفاض تقدير الذات وغيرهما من المشاعر السلبية، فانها غالبا ما تحتاج إلى مثير خارجي لتشتعل مثل النار في قلب صاحبها.
من الأفضل أن يكون الزوج والزوجة صريحين وواضحين في التعامل بعضهما مع بعض، وأن يلجآ إلى المواجهة الودود بدلا من التجسس والتنصت والمراقبة، فكلها مشاعر سلبية تضع الشريك دوما في خانة الاتهام والاضطرار إلى الدفاع عن نفسه، مما قد يفقده الأمل في إصلاح العلاقة.
ربما يكون مراجعة معالج نفسي أمر مهم في حالات كثيرة خصوصا المتطرفة منها، ليساعد الزوج أو الزوجة على تنمية ثقته في نفسه، والإحساس الإيجابي بذاتها وقدراتها، مما يشعره بالأمن الداخلي والطمأنينة تجاه الشريك والعالم، وتبديد الخوف القهري من الفقد، وتخفيف الألم النفسي الباعث على الغيرة، كل ذلك وفق برنامج إرشادي نفسي على أساس علمي.
جريدة القبس